«والفيلم مكفا وفهمينو، شايفينو من دون شاشي» هكذا تبدأ رواية «تلفزيون جميل» (دار الآداب) التي تظهِّر لبنان بكل متناقضاته ونقاط ضعفه، والسلطة بكلّ عنفها واحتيالها
نوال العلي
«تتوقّف السيارة في الكاراج عند الباب الخلفي المُفضي إلى مكتب جميل. تنزل. يراها السائق المنتظر في السيارة، تترنح وتكاد تقع من فوق الدرجات الثلاث. يرتفع قليلاً كأنه في جسمها يتنبّه من السقوط. يصطدم رأسه بالزجاج المغلق (...) تجد نفسها في الممر تُجذب إلى الخلف. ومن دون أن تلتفت تروح، تحت نظر السائق، تشدّ شنطتها العالقة بين دفتي الباب. يسرع السائق ويخلص حقيبتها. (...) شدت الحقيبة بقوة معتقدة أنها ما زالت عالقة. لكنها...»
والمشهد لم ينته بعد. تفصيلية نوردها هنا لتبيان حضور عدسة كاميرا مسلّطة على الشخوص والأحداث. حسّان الزين في روايته «تلفزيون جميل» (الآداب) كاتب سيناريو بلا شك. أما بالنسبة إلى الرواية، فمسألة ربما فيها وجهة نظر!
يستفيد صاحب «علبتي السوداء» (1996) من تقنيّة كتابة السيناريو إلى درجة تشوّش بنية الرواية وربما تفقدها تماسكها، إضافةً إلى كونها تفقد قارئها لذّة القراءة والتمتع بالسرد. إذ إنّ قراءة السيناريو ليست ممتعة إلا لمن يهوى هذا النوع من الأعمال المقطَّعة كمشاهد، معدّة للتصوير، وتستدعي التدقيق في وصف التفاصيل.
المشاهد في الرواية تعتمد على ذاكرة الصورة. أما وصف الشخصيات والحركة والمراقبة المستمرة، فأمر حاضر بقوّة، يدلّل على تمكّن الكاتب وإصراره على تبني هذا الأسلوب. نحن أمام فيلم من دون شاشة... ألا يستهل الكاتب روايته بمقولة زياد الرحباني «والفيلم مكفا وفهمينو، شايفينو من دون شاشي»؟
لو كان بيد الزين أن يُسمع القارئ أنفاس الشخصيات لما تردد في هذا المسلسل اللبناني الطويل الذي يحاول مؤلف «الرفيق علي» (2003) تتبع حلقاته وأجزائه. مسلسل واحد مقسوم إلى ثلاثة أخرى تعرض في قنوات «الربيع» و«الشريفة» و«الجريئة» وكل قناة تمثل تياراً سياسيّاً وطائفياً محدداً، لكنّ شخصاً واحداً جميل هو مَن يتحكم في ما يشاهده المواطن المسكين ومتى يشاهده، وكل ذلك يندرج تحت عملية احتيال كبيرة لتبييض الأموال حملت اسم مسلسل «المدام والأربعون حرامي». بسّام «يشعر بأن العتمة تضيق حوله» وهو المواطن الذي يخاف من النافذة المفتوحة ومن البيت فيلتصق بالتلفزيون، بعدما طحنته رحى القروض البنكية والذاكرة المشظاة والحياة العائلية المحطّمة، مستهدف من مدام نور وجميل. هو يملك مطعماً على وشك الإفلاس، تحتاج إليه جهةٌ معيّنة لتبييض أموالها. ومن خلال خطة يتعاون فيها أصدقاء بسّام ضده، يجري التحكّم فيه بواسطة التحكم في جهاز التلفزيون في بيته. سيشاهد بسّام ثلاثة مسلسلات في زمن واحد. أمّا الريموت كونترول، فهي في يد جميل، يقلّب القنوات لبسام الذي يجهل أنّه تحت مراقبة مستمرة من خلال جهاز التلفزيون خاصته (نتذكر هنا رواية 1984 لأورويل). وهو يضع هذه الشخصية في مأزق حقيقي ويحدّد خياراتها بقوله «بسيطة، يشتغل عند أصحابه في مطاعم الداون تاون، أو مع ناصر في المافيا السورية اللبنانية التي تأكل البلد، أو مع حسين في مسلسله الذي لا نعرف كيف سينتهي ومتى». وحسين هو مَن يمثل دور أحد المقاومين في الجنوب.
على قناة «الشريفة»، يتابع بسّام المقاومين والجنوب المحرر. وعلى «الربيع» يتابع تفجير سينما «ريفولي» وصور بيروت وعمرانها الجديد. أما «الجريئة»، ففيها هيفا بمايّوه البحر. فيما القناة الرسمية أي قناة الدولة اللبنانية عادت لتبثّ مسلسلات قديمة بينها «بيت الأشباح».
حاول حسّان الزين التلميح عابراً لعدد من القضايا الشهيرة في تاريخ لبنان بعد الحرب، مثل اقتطاع الزعماء السياسيين الأملاك البحريّة واستثمارها، ثم إقفال الملف في التسعينيات من دون إعادة الأراضي إلى الدولة. أو ملف النفايات السامة الذي أقفل لأنّه أزعج القادة السياسيّين. أو قضية الزواج المدني التي مثّلت استفزازاً طائفياً. لبنان بكل متناقضاته ونقاط ضعفه يجسّده الزين في شخصية بسّام المترهلة نفسياً. أمّا السلطة بعنفها واحتيالها، فممثلة في شخصية جميل. في العمل انتقاد بلغة الإبداع للإعلام اللبناني وانحياز كل جهة منه، واستغفاله لإنسان بسيط جُلّ ما يصبو إليه هو تحقيق توازن عاطفي ومادي بسيط في حياته، لكنه لا يدرك أنّ سلطةً خفية تغيّر مجرى حياته مثلما تقلب قنوات التلفزيون من محطة إلى أخرى... وأنّه باستغلال تلك السلطة لمعضلات مثل الطائفية، لم تعد شروط الحياة اليومية بالأمر السهل والممكن.

يوقّع حسّان الزين روايته عند الخامسة من مساء غد السبت في جناح «دار الآداب»