«مذكرات ديناصور» في بيروت بعد 21 عاماًبيار أبي صعب
ما الذي خطر ببال توفيق الجبالي كي يأتي إلى لبنان لاستعادة تلك المسرحيّة تحديداً؟ «مذكرات ديناصور» التي يُقدّم الليلة عرضها الأخير في مسرح «مونو» (بيروت)، هي بلا شك من المحطات الأساسيّة في تاريخ المسرح الطليعي التونسي، ومن معالم الذاكرة المسرحيّة العربيّة. الممثل والمؤلف والمخرج المشاكس، يأتي إلينا اليوم كأنّه يفرض على نفسه وعلينا جردة حساب. أكثر من عقدين مرّا على تلك التجربة التي اعتبرت منعطفاً جمالياً، ورافقت ولادة «التياترو» في العاصمة التونسيّة، واختزنت كثيراً من الجماليّات التي ستقوم عليها، في السنوات اللاحقة، تجربة توفيق الجبالي كاتباً وممثلاً ومخرجاً، ومبدعاً يستعصي على التصنيف: «حاضر بالنيابة» (١٩٨٩)، «ويل للممثل» (عن ديدرو ـــ ١٩٩٣)، «فمتلا» (1992)... وصولاً إلى «عطيل» شكسبير (1995)، و«مجنون» جبران (2000)، و«هنا تونس» (٢٠٠٢) و«لصوص بغداد» (٢٠٠٥نحن في العام 1987، وضيوف «أيام قرطاج المسرحيّة» ــــ حين كانت الموعد الأهم عربيّاً ـــ سيكتشفون في تلك الصالة الكائنة في فندق خمس نجوم، عملاً مسرحيّاً صرفاً، متقدماً على كل ما كانت قد شهدته الخشبة العربيّة عامذاك. كان توفيق الجبالي يبحث عن مكانه كمخرج، بعد شراكة عابرة في «المسرح الجديد» الأسطوري، وتجربة مشتركة مهمّة مع رجاء بن عمّار («تمثيل كلام»)، ودور استثنائي في مسرحيّة «إسماعيل باشا» التي قدّمها محمد ادريس أيّام كان هذا الأخير لا يزال فناناً كبيراً. وإذا به نلقاه ممثلاً في «مذكّرات ديناصور» التي أخرجها رشاد المناعي ( 1945 ـــ 1995). هذا الفنّان النادر الذي رحل قبل أوانه، لم يخرج سوى عملين آخرين بعدذاك ـــ «لضيق الوقت» كما يكتب الجبالي بسخريته المرّة في الملفّ الصحافي ـــ «جنة على الأرض» لتنسي وليامز (1990)، و«في عزلة حقول القطن» لبرنار ـــ ماري كولتاس (1993). لكن الجبالي الممثّل، سيترك بصماته بقوّة على العمل: أولاً بطريقة اقتباسه لنصّ برتولد بريخت «حوار في المنفى»، لنقل إنّه أعاد خلقه بعامية تونسيّة تخصّه وبنبض وإيقاع سيميّزان معظم نصوصه اللاحقة. وثانياً بحضوره على الخشبة ممثلاً إلى جانب ممثل آخر من «الوزن الثقيل» هو رؤوف بن عمر. كل توفيق الجبالي هنا، بعوالمه العبثيّة الهاذية، بكوميدياه السوداء وسخريته المرّة. حتّى إن كثيرين نسوا تماماً أن التصوّر الإخراجي المضبوط للعمل، والجماليات المشهديّة تحمل توقيع المنّاعي.
رجلان منفيان، فيزيائي وعامل، يلتقيان في بار محطة قطار في هلسينكي، ويتجاذبان أطراف الحديث. كتب المسرحي الألماني الشهير هذا النص خلال سنوات المنفى (1940) وفي ظل صعود النازيّة، على شكل حوار سياسي ـــ فلسفي يستبطن تأملاً في الواقع الإنساني، واللاتسامح في بنية النظام نفسه، ومخاطر قولبة الفكر النقدي تبعاً للنموذج الأوحد. مع المناعي/ الجبالي انحرف مشروع بريخت عن واقعيّته الأولى، إلى مناخات عبثيّة أقرب إلى يونيسكو وبيكيت. العالم الفيزيائي Ziffel سليل البورجوازيّة ووريث امتيازاتها، والمناضل السياسي Kalle ابن البروليتاريا... يلتقيان عند ذروة اليأس، وفي حالة قطيعة مع العالم بعدما فشل كلّ منهما في موقعه، ولم يبقَ له سوى المرارة. يلتقيان في أرض محايدة، مجازيّة، يدوران في الحلقة المفرغة كأنّهما اعتقلا فيها. لا شيء يربط واحدهما بالآخر، وإمكانيات التواصل تبدو شبه معدومة... لكن المونولوغين الطويلين المتقاطعين، يتكاملان عند أسئلة فلسفيّة ووجوديّة مشتركة: الحريّة، الوطن، الصراع الطبقي، النظام/ الفوضى، التعليم، الحرب، السلطة... والذات التائهة وسط كلّ ذلك. حوار ينضح بالمرارة والشعر والسخرية. وإذا بإيقاع الكلام يتواتر مع إيقاع الجسد، فيما الحركة تسبق اللغة أحياناً وتتجاوزها.
توفيق الجبالي كلّه هنا. بين اللوحات المؤطّرة بالضوء يختبئ المستقبل: محطات في تجربة قامت على اعادة النظر بهويّة المسرح وحدوده، على المينيمالية في صياغة عناصر العرض ـــ أي جماليّة الحدّ الأدنى ـــ والميكانيكية كقاعدة لبناء الشخصيات وأداء الممثلين. سيمضي السنوات محاولاً أن يقول لاجدوى الأشياء وعبث الوجود، وأزمة التعبير وصعوبة القول واستحالة التواصل... المفتاح الذي يختصر مسيرة هذا المسرحي هو «شعريّة اليأس».
بعد 21 سنة، يبدو العمل نفسه ومختلفاً في آن معاً (أم أننا نحن الذين تغيّرنا؟). الديناصور يقاوم الزمن، رغم ما يحمله من تجاعيد، هي تجاعيدنا في نهاية الأمر. قماشة العمق الضبابيّة، والبنك الخشبي والشجرة التي كأنها مستعارة من «غودو». توفيق بالمعطف الأبيض نفسه، يبدو مسكوناً، بحركاته الهستيريّة التي تختزل عالم اللامعقول، مهرّجاً عبثيّاً رافق معظم أعماله اللاحقة مخرجاً وممثلاً. رؤوف بالشلحة البيضاء حول العنق، والجاكيت الطويلة والهدوء الخرافي. لجأ الجبالي إلى إضافات بحكم الزمن: الجنريك في البداية مع مونولوغ بالألمانيّة (أرتورو أوي؟) وأغنية بريختيّة لكورت فايل. وفي منتصف المسرحيّة ينسحب الممثلان، لنشاهد على الشاشة عرضاً مسجّلاً للعمل قبل عقدين. التصوير غير الواضح يبدو كأنّه غبش الزمن... والممثلان شابان يتحاوران على البنك نفسه، قبل أن يعود الزمن إلى اللحظة الراهنة.
نستعيد عبارات مثل «إنسان فاقد الأهميّة»، «أساس الوطنيّة الاكتفاء بالقليل»، «معاهد تحرير الأوضاع»، «ليس لأحد الحق ألا يكون محظوظاً»، «خرا في سرواله... كلمة ما تتقالش!»، «فدّيت (ضقت ذرعاً) من الأخلاق الحميدة»، «وقتاش تفكّوا علينا؟» (كلمة الخاتمة: متى تتركوننا وشأننا؟).
تزيفل الرجل البدين الأصلع ذو المعطف الأبيض وربطة العنق المثلثة، يقف مائلاً على أعلى مسند البنك إلى يسار المسرح: «قليل من الشجاعة والعدالة، هذا كل ما نحتاج إليه». في الظلمة نستعيد ذواتنا، ونتيقّن من أننا كبرنا عشرين عاماً.

الليلة في «مسرح مونو» (بيروت). للحجز: 01/202422