بيار أبي صعب لن تجد أبعد منه عن الكرنفال الثقافي. كائن سرّي لا أحد ينبغي أن يعرف أين يعيش، وكيف يعيش، ومتى. يظهر ثم يختفي خلف سراب قصيدة قليلة. إنّه الشاعر بامتياز: لا شلّة، لا علاقات عامة، لا خطاب نقدي يمهّد للتجربة أو يلحق بها كفلول جيش مهزوم. إنّه، بهذا المعنى، من سلالة وديع سعادة وسركون بولص... يعيش في غفلة ما، في المرآة البلا قاع، في «الجنائن القديمة»، في الهواء «النقيّ كالوحدة»، مع حبيبته «على مرتفع الكلام»...
لنستمع إلى أنطوان أبو زيد في مجموعته الجديدة «فضاءٌ حرٌّ» (دار النهضة): «الآن، نحن على مرتفع الكلام، حيث/ تروننا أصغر من/ عقلة الاصبع، أصغر/ من فتى الرقص،/ أصغر من حركة الجفون/ إلى الفراغ». أو أيضاً: «أنا الساكن الجنائن القديمة/ ولا أخوة غرباء/ لي./ ولست الأجنبيّ الأوحد». إنّه أجنبيّ حياته ـــــ بالإذن من عبّاس بيضون ـــــ وغريبها. يكاد يرثي نفسه مثل روتبوف: «ماذا أسمّيه/ ربيب هيكلي،/ من لحم وغمر،/ لقيطي الذي لم يعد،/ سارقي الذي نما على حدّ/ البرد...»
يمعن الشاعر في الاختزال والتكثيف، في العزلة والغياب والخسارة والفقدان. يلجأ إلى غرابة لا تحميه. تمّحي الجمل الكثيرة «لئلا يصيبها التلف»، فلا يبقى سوى وجود مختزل، متقشّف... ذات عارية يؤطرها الفراغ. يمعن الشاعر في التخفّي، يختفي، لا يبقى منه سوى أطياف ومشاهد وأحاسيس وصور وانطباعات. صدى خافت، سراب شعري سرعان ما يتبدد. لا يبقى سوى رائحة أو صدى، آثار ممحوّة على الدرب... يخالجك شعور بأنّ الرجل نفسه كائن افتراضيّ. هل أنطوان أبو زيد إنسان موجود حقّاً؟ «لم يكن للرجل سوى كلمة/ واحدة./ شقّها ونزل/ فيها».