هاجمتها الكنيسة وأثارت موجةً من الجدل، فارتفعت مبيعاتها وصدرت طبعتها الثالثة، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر». ما حكاية «عزازيل»، هذه الرواية «العجيبة» التي تدور أحداثها بين القرنين الرابع والخامس الميلادي، وبين أديرة الاسكندرية والقدس وحلب وأنطاكية؟
محمد خير
لولا «زمن الرواية»، لما كان ممكناً لناشر أن يغامر بطباعة رواية مثل «عزازيل» لمؤلفها يوسف زيدان، حيث البطل راهب مصري قديم والأحداث تدور بين القرنين الرابع والخامس الميلادي، بين أديرة وكنائس الاسكندرية وأورشليم وحلب وأنطاكية. أمّا شخوص الرواية فمنهمكون في نزاعات لاهوتية معقّدة وفي جدلية الروح والمادة. لكنّ رهان «دار الشروق» المصريّة نجح، وإلا لما قاربت الطبعة الثالثة من الرواية على النفاد، بعد شهور قليلة من إطلاق الطبعة الأولى. وهذا الرواج دعمه ما أظهرته الكنيسة المصرية من غضب معلن، معتبرة أنّ الرواية «العجيبة» تمثّل «إساءةً للمسيحية» قبل أن يتجدّد الجدل حول الرواية في مناسبة اختيارها في القائمة الأولية للنسخة العربية من جائزة «بوكر» ثم القائمة القصيرة التي أُعلنت في لندن أوّل من أمس.
غير أنّ ظلماً مؤكداً يحيق بالرواية ومؤلفها، عند اختصار العمل في بعده التاريخي/ الديني، أو الوثائقي (المؤلف خبير في علم الوثائق والفهرسة، ومدير مركز المخطوطات في مكتبة الاسكندرية). إذ إنّ إنجازها «الفنّي» الحقيقي يكمن في قدرة المؤلف على بعث عالم كامل كان قائماً قبل 15 قرناً، بشخوصه ومشكلاته وتفاصيله اليومية. ورغم أنّ السرد كان تقليدياً إلى حد كبير، في اتجاه تصاعدي زمنياً، مستخدماً «فلاش باك» طويلاً ومتقطعاً، إلا أنّ الحكايات كانت قادرة على جذب القارئ الذي لن تدهشه فقط كل هذه الخلافات الجذرية التي شابت مرحلة تأسيس الكنائس الكبرى والمذاهب المسيحية ثم انفصالها، بل يكتشف بأنّ الديانات «الوثنية» لم تكن على الصورة البدائية الساذجة التي نتداولها، وأنّ كثراً من معتنقيها «حرمتهم» الكنيسة، أو اعتبرتهم مهرطقين، كانوا مسيحيّين مؤمنين، ذهبوا ضحية صراعات دينية وسياسية. إذ إنّ الإمبراطورية الرومانية، في عهدها المسيحي ـــ كانت تفضّل تأييد الكنيسة المصرية لا لأسباب لاهوتية فحسب، بل لأسباب اقتصادية أيضاً، تتعلق بتمويل الدولة الرومانية، وضمان محصول القمح المصري. إذ كانت مصر معروفة بأنّها «سلّة غلال الإمبراطورية الرومانية».
رغم ذلك، ليست الرواية درساً في التاريخ، بل هي رحلة هيبا المصري، الراهب والطبيب والشاعر القبطي، من بلدته في صعيد مصر إلى حلب، مروراً بالاسكندرية وأورشليم. لكنّ الرحلة الحقيقية هي رحلته داخل ذاته: الشك والتفكير، الدنيوية والرهبنة، الخطيئة والطهرانية، بل أخطر من ذلك. إذ إنّ الراهب الذي انتمى أبوه إلى ديانة مصرية قديمة، شاهد وهو طفل مصرع هذا الأب على يد «عوام المسيحيين» في صعيد مصر، وشاهد اندثار ديانة أبيه بتدمير معبدها. كذلك فإنّ أمه تزوجت بعد أبيه بأحد قتلته. هكذا، يرسله العم المريض لدراسة الطب واللاهوت في مكان قريب، قبل أن يتوجه إلى الاسكندرية، حيث يستكمل دراسته جامعاً بين الطب والرهبنة. وفي الاسكندرية «المدينة العظمى» آنذاك، تبدأ رحلته الحقيقية. يذوق «الخطيئة» على يد أوكتافيا الوثنية الجميلة الواسعة المعرفة، ويتعرف إلى العالمة هيباتيا «أستاذة كل الأزمان». العالمة ابنة ثيرون الأستاذ الفيثاغورثي التي تُقتل على يد أتباع القسّ كيرلس بطريرك الاسكندرية، وتموت في الحادثة نفسها أوكتافيا التي طردته قبل أعوام ثلاثة عندما اكتشفت بأنّه راهب مسيحي. وهو لا يستطيع أن يمدّ يد المساعدة لهذه أو لتلك، أنكر نفسه أمام القتيلتين وقتلتهما. على شاطئ البحر ومن رماد جثمان هيباتيا، قام بتعميد نفسه من جديد «كان يشكّ في حقيقة عمادته بسبب وثنيّة أبيه». أطلق على نفسه «هيبا» مستلهماً اسمه من اسم هيباتيا وواصل رحلته.
من امرأته الأولى التي كانت تكبره بخمس سنين، إلى مرتا التي كانت تصغره بعشرين عاماً، مشوار قطعه هيبا بالمغالبة والمجالدة. لكنه لم يرتح يوماً من «الأفكار» التي عذبته. كانت تلك سنوات احتدام معارك المجمع الكنسي، والخلاف الكبير حول ألوهية المسيح أم بشريّته. إنّها مرحلة تحديد المفاهيم: الأقانيم، الثالوث، الأناجيل المسموح بها وتلك الممنوعة، هو صراع لا يعرف الرحمة ولا التسامح، هو زمن الجحيم للأقليات والديانات القديمة والفلاسفة والمهرطقين الذين يدرسون الرياضيات والفلك، وكل «العلوم التي لا نفع لها» أو كما يقول القس كيرلس للراهب هيبا «إن كنت تريد تاريخاً؟ إليك التوراة وسفر الملوك. أو تريد بلاغة؟ إليك سفر الأنبياء. أو تريد شعراً؟ إليك المزامير. وإن أردت الفلك والقانون والأخلاق، فإليك قانون الرب المجيد».
أساليب الطب القديمة، أنواع الطعام، وصف المدن، صعوبة السفر، أشكال الثياب، تفصيلات أغنت الرواية من دون إملال، مع قدرة المؤلف على الإمساك بحد أدنى من التشويق، وتقديم شخصيات من لحم ودم، ولحظات إنسانية توّجتها مشاهد حارة وعذبة. لكن نقطة القوة الأهم، كانت اللغة المريحة التي خففت من وطأة المصطلحات اللاهوتية والأسماء اليونانية والقبطية.
«عزازيل» ليس اسم الرواية فحسب، فتلك التسمية التي تعني «الشيطان، إبليس» هي أحد أهم أبعاد العمل، فالشيطان هنا ليس سبب الشرور بل«مبرّرها». هو «النقيض» وهو الذي يتجسّد للبطل ـــ أو هكذا يتوهّم الأخير ـــ ليمنعه من اليأس فالانتحار، بعد أن يقنعه بأنّ «الموت لا معنى له، المعاني كلها في الحياة».