«مسارات» الموسم الذي ملأ الدنيا وشغل البلجيكيينبروكسيل ــــ طه عدنان
شهدت بروكسيل أخيراً اختتام موسم «مسارات» بغنائية للفنان الأميركي غاريت ليست بعنوان «حالة حصار». 21 عازفاً وثلاثة أصوات أوبرالية اشتغلوا على قصيدة محمود درويش الشهيرة ليجعلوا من حالة الحصار المأساوية حالة متعة فنية. وقد استطاع الجمهور أن يتفاعل مع هذه الحالة/ القصيدة بلغة درويشية فصيحة، من خلال إلقاء شجي للشاعرة الفلسطينية بيسان أبوخالد. هكذا انتهى، رسمياً على الأقل، الموسم الذي ملأ الدنيا وشغل البلجيكيين زهاء خريف كامل، أقيمت ضمنه 230 تظاهرة توزّعت على خمس حواضر بلجيكية. وقد حقّق الموسم للثقافة الفلسطينية حضوراً مذهلاً في أوساط الجمهور الأوروبي وحظي بتغطية إعلامية واسعةلكن كيف أفلحت «مسارات» في تهيئة التربة لشتلات الأمل تحت سماء «البلاد الواطئة»؟ كان ذلك قبل سنتين، عندما بدأت ليلى شهيد سفيرة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي، وفابيين فيرشتراتن مديرة المركز الثقافي الأوروبيLe Hall De Bruxelles بالتنسيق مع وزيرة الخارجية البلجيكيّة ماري دومينيك سيموني، وزميلتها فضيلة لعنان وزيرة الثقافة، للتحضير لموسم ثقافي وفنّي فلسطيني. تحضير اختيرت له لجنة مستقلة تدير أعمالها مفوّضتان هما فابيين فيرشتراتن نفسها وفاتن فرحات المديرة السابقة لـ «مركز خليل السكاكيني الثقافي» في رام الله. بينما ضمت بين أعضائها حساسيّات مختلفة تعكس تنوّع الساحة الفنية الفلسطينية المعاصرة: من القاصّ محمود شقير إلى زميلنا الشاعر المقدسي نجوان درويش، مروراً بعادلة العائدي وفيرا تماري وعليا ريان، من دون أن ننسى جانيت ميخائيل (رئيسة بلدية رام الله). وكانت الرئاسة الفخريّة للجنة قد أسندت لدى تشكيلها إلى الراحل محمود درويش. وطبعاً كانت مهمّتها تقديم فلسطين معاصرة بعيون مبدعيها. صور جديدة ومغايرة لفلسطين تطيح الكليشيهات التي تستوطن الجمهور الغربي، وتسكن حتى أكثرهم تعاطفاً مع قضيتها.
صحيح أن «مسارات» أفردت حيّزاً كبيراً لأسماء جديدة، وأفكار غير نمطية، لكنّها لم تقطع مع رموز نضالها الثقافي والسياسي. إذ حضر الشهيد عزّ الدين قلق ــــ بعد ثلاثة عقود على اغتياله في باريس ــــ من خلال معرض للملصقات السياسية التي كان يجمعها وعياً منه بقدرتها على التعبئة السياسية، في وقت لم يكن فيه وجود لا للفضائيات ولا للطرق السيّارة للمعلومات. غسان كنفاني حضر عبر أفلام مستوحاة من رواياته، إضافة إلى مسرحية بلجيكية مقتبسة من «عائد إلى حيفا»... وناجي العلي من خلال أفلام عن حياته، ومعرض خاص لرسومه الكاريكاتورية التي يتواصل عرضها حتى نهاية السنة. نجوان درويش أعد معرض ناجي العلي، مثلما أعد برنامجاً لا يقل طرافة جمع فيه مجموعة روائيين وكتّاب سيناريو بلجيكيين وفلسطينيين ليقاربوا موضوع الهوية من حيث الطرافة والمفارقة. «أن تكون بلجيكياً» حوّل صفة «البلجيكي» التي تُقال همساً ككناية سلبيّة عن الفلسطيني في بعض الدول العربيّة، إلى موضوع مفتوح للمناقشة وعرض إشكالات الهوية بجرأة وخفّة وانفتاح.
كل الفنون الشبابيّة والمعاصرة كانت هنا: فنون الغرافيك وأفلام الفيديو («استوديو زان» و«إديومز فيلم»)، موسيقى الراب والهيب هوب (فرقة «دام» و«غزة تيم»)... بين تجارب جديدة قدّمت رؤيتها لواقع الاحتلال. وحضر فنّانون أمثال إيليا سليمان واميلي جاسر وفيرا تماري ومنى حاطوم وتيسير البطنيجي ورولا حلواني وأحلام شبلي وكاميليا جبران وطارق حلبي. كما حضر كتّاب وأدباء بقامة محمود شقير (توقيع الترجمة الفرنسية لمختارات من قصصه القصيرة تحت عنوان «ابنة خالتي كوندوليزا»)، أو الراحل حسين البرغوثي (صدرت الترجمة الفرنسية لسيرته «سأكون بين اللوز»)، أو غسّان زقطان الذي احتفت «مسارات» بإطلاق المختارات الشعرية التي أعدّها بعنوان «القصيدة الفلسطينية المعاصرة»، وصدرت باللغتين العربية والفرنسية (ترجمة أنطوان جوكي) متضمنة 16 شاعراً فلسطينياً. وفي الاتجاه نفسه، ذهب العدد الخاص من الكتاب الخاص الصادر عن جامعة بروكسل، ومنشورات «حلقة الفن» في باريس التي يديرها الفيلسوف البلجيكي جاك سوشر، وجاء بعنوان «فلسطين... لا شيء ينقصنا هنا». العدد الخاص والمتميز الذي أشرفت على تحريره الباحثة والأكاديميّة الجزائريّة/ الفلسطينيّة عادلة العائدي، تضمّن نصوصاً بالفرنسية لمجموعة كتّاب وفنانين فلسطينيين وعالميين حول فلسطين التي بدت كما لو أنّها تتسع في الثقافة والوجدان، كلما جرت محاصرتها عسكرياً.
وما زالت الدعوات تتواصل لحضور المزيد من الأنشطة ضمن «مسارات»: ليلى شهيد و«مسرح الجيب» يدعوان إلى عرض بالفرنسية لمسرحية «اسمي راشيل كوري» بحضور والدي الصبية الأميركية التي قضت تحت جرافة إسرائيلية في غزة. قصر الفنون الجميلة في بروكسل يدعو لحضور عرض «الكمنجاتي» حيث يروي الموسيقار الفلسطيني رمزي أبو رضوان ــــ الذي اشتهرت صورته كراشق للحجارة في الانتفاضة الأولى ـــ بالموسيقى والنص والصورة حكاية النكبة...
في النهاية، أدّت «مسارات» دوراً كبيراً في إعادة صياغة صور جديدة ومتعددة لفلسطين في الوجدان العام للجمهور البلجيكي.
www.masarat.be