أرامل على البسكليت» مسرحيّة جديدة لجواد الأسدي، تحكي جراح المنفى والهويّة، انطلاقاً من ذاكرة عراقيّة مسكونة بهاجس الموت
دمشق ــــ خليل صويلح
مائدة سوداء على طول المنصة، وثلاثة كراسٍ. فوق المائدة باقةٌ من الآس الجاف وزجاجة نبيذ وأوراق متناثرة. هل هي مائدة العشاء الأخير؟ سيخطر هذا السؤال في البال للحظة، قبل أن تقتحم الخشبة ثلاث نساء على «بسكليتات» في صخب ودوران حول المائدة. سيتكشّف المشهد عن مقاصد أخرى، وإن كانت رائحة الموت والخيانة تلقي بظلالها على حياة أولئك النسوة. هناك روح ممثِّلة راحلة تدعى ماري روز تحوم في المكان، وتهيمن على ذكريات هذه العائلة (الجدة، والأخت، والابنة).
«أرامل على البسكليت» عرض جواد الأسدي الجديد الذي أقيم في دار الأوبرا في دمشق يقترح سينوغرافيا متقشّفة، ونبشاً في الذاكرة الشخصيّة حول الهوية والمنفى والطوائف والذات الممزّقة ببلاغة مترفة. كأنها مزق من نصوص كانت ماري روز تحتفظ بها في خزائنها. لذلك، لن يكون مستغرباً أن تتردد في أرجاء المنزل أسماء مثل أوفيليا وروميو وجولييت، أو أن تتناثر أوراق هاملت في الموقد، أو أن يُلقى بالملك لير في البانيو. نص شكسبيري هجين ومكان مجهول وشخصيات لا تنتمي إلى هوية محددة: ماريا وجميلة وكوكو ورجل غائب يدعى ارنست محمد كامل. كأنّ الأسدي يختزل تاريخه المسرحي بالتجوال بين محطات أساسية تركت آثارها على روحه، سواء لجهة التاريخ الشخصي أو لجهة تاريخ العراق الذي صار مكاناً للقتل على الهوية والاعتقال والموت.
هكذا، تنبثق فجأة لغة خشنة وممزقة بما يشبه صرخات استغاثة. شخصيات تفتش عن ذواتها بين كومة أنقاض تثقل أرواحها ببؤس العيش. حالما تغوص الشخصية في زمنها المنهوب تنتهي محطة وتنفتح أخرى، وإذا بالمائدة تتحول في الحركة الثانية من الحدث من واجهة الخشبة إلى عمقها بشكل شاقولي ثم مائل، تبعاً لما تكشف عنه شخصيّات النص من حيواتها السريّة. المرأة العجوز (أداء السوري نضال سيجري) مزيجٌ من طفولة بعيدة وشباب آفل، ومحاولة محمومة لاستعادة ذكريات البهجة في حياتها، وإبعاد شبح الموت باختراع ألعاب مسلية، بالدوران على البسكليت وتذكّر عشاقها من الأرامل بصحبة ماريا.
بخصوص حكاية ماريا، سنتعرف إلى فتاة كانت تعيش في مصح، وها هي تروي ذكرياتها المروّعة، وإذا بالخالة (كارول عبود) تسحب البساط لتروي مأساتها الشخصية... هي التي بقيت مجرد ظلال لشقيقتها الممثلة الراحلة، وضحية قصة حب صامتة ومدمرة مع أرنستو. لاحقاً سترتدي ماريا (نادين جمعة) ثياب أمها لتستعيد شخصيات كانت تؤّديها المرحومة على الخشبة، بينما تتحول المائدة إلى مقبرة وزهور ذابلة وعيد للموتى. لعله منزل الأشباح والهواء المخنوق والتوق إلى مكانٍ آخر أكثر حريةً وأقل عطباً. ها هي عائلة تفتش عن نسمة هواء كي لا تختنق بذكرياتها الأليمة، لكنها ستظل تدور في فناء المنزل على بسكليتات في مربّع صغير يعزلها عن العالم الخارجي. إذ لم يبق أمامها ملجأ سوى البحث في دواخلها عمّا يغني لحظتها المَعيشة بشغف وحنين لماضٍ آفل. هكذا تخترع الابنة في خيالها رساماً يعشقها ويلتقط بورتريهات لها، فيما تحصي العجوز عشاقها.
هل هو الحب المفقود؟ ربما كان الحب وحده، هو ما تفتش عنه هذه الشخصيات في خواء حياتها وعزلتها بين جدران البيت وقسوة ما يحدث في الخارج.
الممثّل في مسرح جواد الأسدي عنصر أساسي في بنية العرض. لذلك لن ننسى الحضور اللافت لممثليه وقدراتهم على شحن الشخصيات بطاقات تعبيرية مبهرة، وسعي خلّاق لتحويل الجملة الشعرية إلى حالة مشهدية. كارول عبود خصوصاً التقطت أبعاد الشخصية الممزقة فشحنتها بتراجيدية عالية تتوافق مع نص الأسدي بصخبه اللغوي واللفظي من نوع «كمنجات العدم» و«القبر عصي على جسدي». لعل هذا الخليط الشكسبيري والمعاني البعيدة والشاعرية لروح لوركا هي مرجعيات مضمرة في متن النص. وهذا ما يحتاج إلى براعة في الأداء وتلوينات في الحركة على الخشبة في مبارزة خلّاقة بين كارول عبود ونادين جمعة، فيما سحب نضال سيجري الشخصية إلى منطقة كوميدية مبنية على الهذيانات والتهكم والارتجال.