المفكّر والسياسي المعروف يفتح كتاب الذاكرة، مستعيداً أربعة وجوه أساسيّة في تاريخ لبنان الحديث: فؤاد الشمالي، فرج الله الحلو، نقولا الشاوي وجورج حاوي. «الشيوعيون الأربعة الكبار» (الساقي) كتاب عينه على الراهن... على حساب الأمس القريب أحياناً
أرنست خوري
لأنّ كريم مروّة يعدّ نفسه أنّه لا يزال شيوعياً على طريقته، فإنّه لا يرغب في أن يغيب عن الذاكرة ـــــ الوطنية والحزبية ـــــ ولو للحظة، كم أنّ رفاقه ظُلموا من كل الناس، وخصوصاً من رفاق الخندق الواحد. كتابه الجديد «الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث: فؤاد الشمالي، فرج الله الحلو، نقولا الشاوي وجورج حاوي» (دار الساقي)، يجهد فيه مروّة لإثبات وجوده، كأنه يقول: صحيح أنّني خرجتُ من التنظيم الحزبي، لكنّني ما زلت هنا، كاتباً وناقداً ومحاوراً مَن وُجد أمامي. وإن تعذّر وجود هذا «الآخر»، حاورتُ نفسي وخرجت كل مرة بنقد جديد بات هوايتي منذ «السقوط الكبير».
كوابيس النسيان يحاربها إذاً أبو أحمد على طريقته: كتاب يرمي فيه الكثير مما أراد قوله منذ مدة طويلة. ولا شكّ في أنّ رحيل جورج حاوي ـــــ صديقه ورفيقه في الحزب والمشاغبة والتغيير والمجد والهزيمة ـــــ حفّز قراره بالخروج عن الصمت. كتاب «الشيوعيون الأربعة الكبار» ليس تاريخياً بحتاً، ولا تحليلياً بحتاً. يُمكن القول إنّه يجمع الاثنين. وربما، لأنّ مروّة أراد قول كل شيء من خلاله، فقد وقع في مطبّات ليس أكثرها نفوراً، انتقال غير مبرّر بين الأمس البعيد والحاضر القريب، في نسق أقلّ ما يُقال فيه إنّه غير مفهوم بالنسبة إلى البعض.
مروّة يفاجئ قرّاءه فعلاً. كيف تنتقل بهم هكذا ببرهة يا رفيق، من عام 1944، حين اعترض المندوب السوري على توقيع لبنان على بروتوكول الجامعة العربية... إلى آب (أغسطس) 2008 لتخرج ـــــ بعد مطالعة «أربعتعش آذارية» مطوّلة عن الرفض السوري التاريخي والمستمر للاعتراف بسيادة الكيان اللبناني ونهائيته ـــــ بعبارة من نوع «نأمل أن تؤدّي زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى سوريا (...) إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين»! أهو دفتر لتدوين الأمنيات أم ماذا؟
على العموم، أراد مروّة إعطاء أبطال كتابه شيئاً من الحقّ المعنوي، وكان له ما أراد. ولو أنّه توسّل أسلوباً غير المكاشفة والحديث عن «خطاياهم» قبل تعداد إنجازاتهم ومواقفهم التي صنعت تاريخ الحزب والوطن، لما حَقَّق مبتَغاه.
لكنّ مروّة أصبح متخصّصاً في النقد الذاتي أو «الجلد الذاتي». وهي موضة جرى عليها الشيوعيون منذ انتهاء الحرب «العبثية الطائفية» التي كانت «حرب الآخرين على أرضنا» على حدّ تعبير كاتبنا. مهلاً رفيق كريم. هل حقاً بتّ تعتبرها «حرب الآخرين على أرضنا»؟ ألا تذكّرك هذه العبارة بيمين انعزالي أطلق هذا التوصيف لإخفاء حقيقة حرب أهلية فجّرها اليمين نفسه على ما أخبرتمونا؟ وكنت أنت ـــــ نعم أنت ـــــ من أبرز منظّري أسبابها وعواملها؟ أين حلم إصلاح النظام الطبقي ـــــ الطائفي؟ أين حماية الثورة الفلسطينية؟ أين أصبحت المارونية السياسية (هل أصبحت فعلاً من مفردات اللغة الخشبية؟) ألم تورد أنت في الفصل الخاص بأبي أنيس أن كمال جنبلاط، الشهيد الآخر (وما أكثر الشهداء في الكتاب)، قال في أحد أيام عام 1974 إن «قوة الحزب الشيوعي التي برزت في تلك الاحتفالات (العيد الخمسين للحزب)، ربما كانت من الأسباب التي أرعبت اليمين اللبناني فبادر إلى افتعال الحرب»؟
لكن هذا هو كريم مروّة الذي أراد يوماً محاكمة لينين («النهار» عدد 24/10/2005). جرأته تسمح له بالذهاب بعيداً في إعادة النظر في كل شيء، حتى بـ«المقدسات... وربما لذلك هو مميّز. ونموذج جلد الذات في السياسة وفي السلوك الشخصي مادّة تجدها بكثرة في كتابه المذكور: فمن دون تردّد، يقدّم أبو أحمد اعتذاره الصريح لسوء معاملة من أوصله إلى القيادة، أي نقولا الشاوي... أبو زهير نفسه.
أعاد مروّة الاعتبار لا للشيوعيين الأربعة «الكبار» فحسب، بل إلى أدبياتهم وإلى بقية الرموز. قيمة مضافة حقيقية أضْفَتْها كثرة الاقتباسات في مؤلّفه: أعادنا إلى الكتاب الوحيد الذي تركه الشاوي «طريقي إلى الحزب» (أخبرنا مروّة أنّ «دار الفارابي» تنوي إعادة نشره بطبعة جديدة). كما أرجع قارئه إلى أدبيات ذاك الشيوعي الذي أسّس الحزب، فؤاد الشمالي أيضاً. وهل من مأساة أكثر واقعية من قصة ذاك العامل الذي نذر عمره كاملاً لحزبه، قبل أن ينتهي وحيداً وجائعاً بسبب تهمة سخيفة وجّهها إليه رفاقه، وفي مقدّمهم أرتين مادايان، مفادها أنّه متعامل مع الأجهزة الأمنية؟
هكذا هو تاريخ هذا الحزب، مثقل بحفلات التخوين الجنونية والرشق بالعمالة والاتهام بالانحراف الفكري: الشمالي «عميل» لأجهزة الأمن. وفرج الله الحلو لأفكار بورجوازية تحريفية! أما حاوي فللاستخبارات الأميركية.
مروّة يكاد يصرخ في صفحاته: أسهمنا في صنع الاستقلال. اخترعنا النقابات وقانون العمل (1946). الحركة الثقافية الطليعية هي ابنتنا البكر. أطلقنا المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني. منعنا الإسلاميون الذين يحتكرون «المقاومة الإلهية» اليوم من مواصلة الكفاح من أجل «وطن حر وشعب سعيد». قاومنا الوصاية السورية وتحمّلنا حرمان «نعمها» منذ شهيدنا فرج الله إلى قائدنا أبي أنيس. مروّة يريد ألّا يُنسى رفاقه. وبين الصفحات، يشعر القارئ بأنّ إصرار النائب الأسبق للأمين العام للحزب الشيوعي على رفض النسيان، لا ينبع من نوستالجيا ماضوية، بل قد يكون فكرة ـــــ مجرد فكرة ـــــ مفادها أنّنا «لم (لن) ننقرض» وسنعود... وغداً لناظره قريب.