حسين بن حمزةالعنف هو أكثر ما يُقرأ ويُحَسُّ في مجموعة فيديل سبيتي «اقتل رجلاً/ ارفع جمجمته عالياً» (دار النهضة)، وهي الثانية له بعد «تفاحة نيوتن» (2005). قد يظن بعضهم أنّ العنف يبدأ من عنوان المجموعة نفسها، لكن هذا العنف الظاهر على سطح الجملة ليس إلا قمة جبل الجليد. ثمة عنف آخر غير مرئي بهذا الوضوح. العنف الأعمق والغائر يولد من تجاور العبارات في المقطع الواحد، ومن احتكاك حواف المفردات في الجملة الواحدة أيضاً. ثمّة مذاقٌ معدني في هذه الكتابة. القارئ المتروِّي يمكنه سماع ضجّة مكتومة تصدر عن ارتطام الجمل والمفردات وهي في طريقها إلى ابتكار صورة أو استعارة ثمينة ومفاجئة. لنقرأ: «لو كنتُ أملك جسداً ممشوقاً/ لعرضتُ الأزياء/ قرب الذين تصرعهم السيارات المتفجرة/ هنا تسهل العروض/ وهنا كاميرات ومتفرجون/ وجثث تمهِّد المسرح». هناك شراهة في إقبال سبيتي على معجمه الشعري، وهو معجم عنيف بدوره. الشراهة تتبدَّى في النبرة التي تبدو كأنها ترغب في افتراس الكلمات. الصور والتشبيهات تتحول إلى طرائد راكضة في رحلة صيد شرسة. هل قلنا شرسة؟ هذه إذن صفة أخرى تُضاف إلى قصائد فيديل سبيتي الذي يحسِّسنا بأن كتابته هي ابنة بارَّة ـ وعاقَّة في الوقت نفسه ـ لحياة حديثة وما بعد حديثة. كتابة تحدث في المدينة، وفي جوفها الليلي خصوصاً، حيث الأدرينالين والدخان والنشوات الكحولية والعاطفية تتدخَّل في صياغة النسخة النهائية لهذه الكتابة. «ألم تلمحي زورقاً يمخرُ عباب الساهرين/ إنه زورقي»، هكذا يحلو للشاعر تخيَّل نفسه. القارئ الذي يعرف فيديل سبيتي شخصياً، سيُدرك كم أن نصوصه تشبه ظهوره وتقديمه لنفسه في مجتمعه الصغير والضيق الذي قد يكون حانة أو مقهى أو رصيفاً. الشخص هنا بطل مضاد، ولا يتلقّى إطراءاتٍ ومدائح جاهزة وبائدة. «يا لسخافتك/ يا لسوء هذه التربية»، يقول في ختام إحدى القصائد. وفي قصيدة أخرى يقول: «أنتَ بقعُ حيوانات منوية مجموعة من الأسرَّة». بهذا المعنى، تتحقّق فكرة أن يكون الشعر شأناً شخصياً. ليس لأن هذا الشعر يتناول شؤوناً شخصية ويؤرِّخها، بل لأنه منجزٌ بحواس هذا الشخص ومزاجه وطريقة نهمه للعالم والأشياء: «الحياة جميلة/ أيها المكتظُّ بالشعارات/ والأفلام الإباحية/ أيها المهجوس بوحدتك/ كأن سيرتك أبقى من سيرة كافكا».
العنف والشراسة والأنتي ـ بطولة، كل هذا لا يمنع معظم نصوص المجموعة من الاهتداء إلى شعريتها الخاصة. الميزة الأهمّ لهذه الشعرية أنّها طازجة وحارة. يحس القارئ أنه يقرأ شعراً جديداً في غمرة الشعر الكثير الذي يُنشر حالياً. نقرأ ونقول هذا شعرٌ علينا أن نحبَّه لأن صاحبه أحبَّه وهو يكتبه. ربما لا يكون هذا الشعر مهماً بمعايير قراء آخرين. هذا حقّهم. ولكن حتى هؤلاء لن يستطيعوا تفادي جِدَّة وطزاجة ما يقرأونه. لنقرأ هذا «الغزل»: «تثيرني علاقتك/ بالكائنات الفضائية/ فأنت على الأغلب أجملها». وإذا اكتفينا من العنف والنهم، يمكننا أن نجد مقاطع أقل معدنية وارتطاماً، كما هي الحال حين يقول: «الله رجلٌ نبيل/ لكنْ/ هذا أكثر ما يستطيعه» وأيضاً: «السماء التي تقفين تحتها/ صافية/ لكنَّ مزاجكِ يجعلها رمادية».