في روايته الجديدة، يوثّق زياد عبد الله حياة ساكني تلك المدينة الكوزموبوليتية التي تعتاش على عمّالها بقسوة ولامبالاة
أحمد الزعتري
يوسف الرشيد عامل في مطعم وجبات سريعة في دبي يجلس في مقهى منكبّاً على دفتره الأحمر. يلاحظ رجلاً «مفرط الأناقة» يعبر طاولته فيحدّق به «تتبعه سحابة عطر». يوسف المشهداني مدير ناجح في وكالة إعلانات يدخل المقهى الخالي إلا من «شاب وحيد منكب على دفتر أمامه» فتُفزعه نظرته الهائمة. هذا ليس مقطعاً من فيلم حديث لمخرج ممَن يقتطعون المشاهد بناءً على الأفكار وليس التسلسل الزمني للأحداث، إنّه مشهد من رواية «برّ دبي» (دار المدى) للزميل زياد عبد الله. هذه الموجة التي تولي أهميةً كبيرةً للمونتاج، عبر إعادة ترتيب المشاهد بفوضوية لا تتبع التسلسل الزمني المعتاد، تجدُ طريقها أخيراً إلى الرواية العربية. قد يبدو التأثير البصري هذا محسوماً في الرواية الغربية؛ إذ ظهرت أعمال مثل «الصّخب والعنف» لويليام فوكنر، ولاحقاً بول أوستر.
المشهد في «برّ دبي» يتقاطع مع هذا الفنّ البصري من خلال شخصيات معزولة في دبيّ، تلك المدينة الكوزموبوليتية التي تعتاش على ساكنيها وعمّالها بقسوة ولامبالاة: يوسف الرشيد عامل في أحد مطاعم الوجبات السريعة يُغرم بعاهرة روسيّة تختفي فجأة، فيصاب بصدمة تدفعه للكتابة في دفتر أحمر. هدى مرتضى، أكثر الشخصيّات انطواءً تعمل محرّرة صفحة الحوادث في جريدة، وقد جاءت إلى دبي للبحث عن عشيقها. حسن المطوي المتديّن ومدير في شركة عقارات ضخمة يستغلّه صاحبها لأداء مهمات قذرة، ويوسف المشهداني المدير الناجح في شركة إعلانات، يعاني الوحدة والتمزّق، ويقرّعه صديقه اليساري مصطفى غدير على حياته المرفّهة.
أمّا مرجعيّات الشخصيّات، فتستند غالباً إلى الموسيقى والسينما الغربيتين، في إشارة إلى افتراضيّة الثقافة التي تنتجها دبي. هنا فقط يشبِّه يوسف المشهداني نفسه بـ«إنكليزي من أصول عربية في دبي» محوِّراً أغنية ستينغ المشهورة «إنكليزي في نيويورك». وهنا أيضاً يجد سكان دبي فيروز «كئيبةً» كما يجد فيلم Fight Club مكاناً له في حوارات الشخصيات.
لكن، في الواقع، تبقى هذه المرجعيّات وهميّة. إذ ليس هناك عمق سردي لهذه الشخصيات إلا من خلال صراعاتها، فلا ذكر لأصولها، حتى لا يمكن ملاحظة أيّ لكنة أو إشارة إلى بلد معيّن: كل شخصية تعيش حياتها الآمنة بين المنزل والعمل، مع بعض الحنين إلى بلد المنشأ. إلا أنّ دبي ستفرض صراعاً يظهر في الرواية على شكل إقصاء للغة العربية ومتحدّثيها الذين «لا يتكلمون الإنكليزية بلكنة صحيحة» والصيف الدائم بحرّه ورطوبته يثقل أجواء الرواية بملل ورتابة، إضافة إلى العلاقات المبتورة التي لن تستمر إلا بالمقارنة مع علاقات أخرى تركها أصحابها مقابل حياة رغيدة في دبي. هدى، مثلاً، لن تستطيع تأسيس حياة صحيّة إلا عبر مصطفى غدير، حتى إنّها تذهب لرؤية العالَم من خلال نظرياته اليسارية. كلّ ذلك في مدينة «وهمية» مصطنعة تعتاش على مجرّد ماكينات طُبعت صورتها كمجاز ناجح على الغلاف الخلفي لرواية «برّ دبي»... بل إنّنا ننسى أحياناً الأشخاص الذين يعيشون فيها، إذ «لا يمشي ساكن دبي فيها... بل يستخدم السيارة، بينما الزجاج وبرودة المكيّف يعزلانك عما حولك». وهذا بالضبط ما يحكم بناء الرواية، رغم أنّ غربة شخصياتها المشتركة تصلح لتأسيس علاقات بينها، كما فعل يوسف المشهداني عندما حاول البحث عن يوسف الرشيد الذي يكتب في مدوّنة على الانترنت. أو حسن المطوي الذي تزوره الصحافية هدى لتجري تحقيقاً عن ابنه الذي أُجهض ليضعه في «مرطبان» في ثلاجة المنزل، ثم يوسف المشهداني مرة أخرى الذي يقرأ الخبر في صحيفة هدى، ومصطفى غدير الذي يوجد على مسافة قريبة وهمية من هدى. وتنتقل الرمزية إلى مستوى آخر عندما نكتشف أنّ تشابه أسماء «اليوسفين» سيشير إلى أنّ اليوسف الثاني (المشهداني) ليس إلا نسخة عن الأول (الرشيد) عندما يصبح مديراً ناجحاً.
قد يكون هذا النموذج الأفضل الذي يمكن تقديمه عن مدينة «افتراضية» مثل دبي، إذ نعلم أنّ داخل تلك العمارات الحديثة، أشخاصاً لا نستطيع ملاحظتهم. أشخاص يمارسون الجنس ويستمعون إلى الموسيقى ويشاهدون الأفلام ويقرأون الصحف... مستهلكو «ثقافة» دبي الافتراضية أصلاً من دون أن يكونوا منتجين لها. لذا، وبغض النظر عن الأسلوب السردي الناجح الذي يعتمد على «التقطيع»، قد يكون توثيق حياة ساكني دبي بهذه الطريقة هو أهم سبب لقراءة الرواية.