زكريا محمد *الحرب رموز. لا يمكن الانتصار بالرموز وحدها، بالطبع، لكن أيضاً لا يمكن الانتصار من دون رموز. إدراك طاقة الرمز وتأثيره مسألة حاسمة. وحرب العراق كانت حرباً مليئة بالرموز. كانت حرب رموز بلا منازع. حدث إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، كان حدثاً رمزياً مسرحياً مخططاً له مسبقاً من جانب القيادة الأميركية. أريد له أن يكون رمزاً لنهاية عهد في تاريخ المنطقة، بل في تاريخ الأرض.
إسقاط تمثال صدام حسين كان أهم من إسقاط بغداد. لم يكن سقوط بغداد ليكتمل من دون سقوط التمثال. إسقاطه كان لعباً على تكسير الأصنام في مكة، وإسقاط تمثال ستالين، وغيرهم. كان إعلان دين جديد في الكون: دين ديك تشيني وولفوويتز.
غير أنّ المسرحية لم تكتمل. بدأت بداية موفقة، ثم حدث اضطراب ما. لكن رغم الاضطراب والفشل، لم يكن هناك حدث مواز لحدث إسقاط تمثال صدام. لم يتقدم أحد طوال خمسة أعوام كي يخترع حدثاً في قوته ورمزيته. لذا بدا كأن العرض سينتهي هكذا من دون قفلة نهائية. من دون قفلة صاعقة معاكسة لافتتاح إسقاط التمثال.
ثم ظهر منتظر الزيدي.
فرد واحد تقدّم وصنع نهايةً رمزية بشكل لا يمكن التفوق عليه. لقد صنع حدثاً يوازي في أهميته حدث إسقاط صدام حسين. وعلى الأغلب، فإن الحدثين سيندمجان معاً مستقبلاً. فحين نرى تمثال صدام في فيلم وثائقي، فإن على الفيلم أن ينتهي بحذاء يطير إلى رأس جورج بوش.
لا مفر من ذلك.
لن يكون بمقدور أحد أن يتجاهل الحذاء. فكل واحد من الحدثين الرمزيين أغلق مرحلة.
لكن، كيف أمكن لرجل واحد، لصحافي مسالم، أن يخلق رمزاً بهذا القدر من الاكتمال؟ كم ليلة قضاها وهو يفكر في خلق هذا الرمز؟ ثم كيف أمكن له أن يصوغ جملة بهذه القوة: «خذها قبلة وداع»؟!
اللعنة، لقد فعل شيئاً مذهلاً.
الكل متأكد تقريباً من أن الأميركيين منهزمون. لكن لم يكن هناك حدث رمزي يلخص هذه الهزيمة ويوضحها بالصورة. كانت الهزيمة بحاجة إلى أن تتبلور في حدث صغير رمزي كاشف. لم يكن بإمكان المرحلة بكاملها أن تختتم نفسها، وأن تختفي في الكواليس، من دون هذا الحدث.
كان لا بد من سحب الستارة كي يفهم الجميع أنّ العرض المسرحي قد انتهى. وإن لم تسحب سيظل الناس ينتظرون فصلاً ما.
منتظر الزيدي سحب الستارة، وأنهى العرض. انتهت مرحلة بكاملها. انتهى عالم أراد أن يوجد بإرادة وولفوويتز ورامسفيلد وديك تشيني وبوش.
من أين طلع منتظر الزيدي؟ وكيف طلع؟ أي شياطين أو ملائكة أطلعته؟ لا أحد يدري. لقد طلع من الأرض. طلع من التاريخ. طلع من النكتة. طلع من القهر. طلع من ضرورات مسرحية. طلع من العتمة. طلع من النور، وأدى دوره على الخشبة.
لا الله سينسى الكلمات القصار التي قالها، ولا الإنسان. لا الآن ولا التاريخ.
ليس هذا مديحاً للأحذية. لا مديحاً لحذاء الطنبوري، ولا لحذاء خرشوف، ولا لحذاء الزيدي. هذا مديح للقفلة. لسحب الستارة. لكلمة الختام.
كل ما فعلته المقاومة العراقية ما كان ليكتمل لولا قبلة الوداع.
كل تظاهرات أنصار مقتدى الصدر لم تكن ليكتمل معناها من دون هذه القفلة.
في مثل هذه اللحظات يدرك المرء أنّ هناك شعوباً بالفعل. يتخلى عن شكه بوجود شعوب. فما فعله الزيدي كان النهاية التي مرت في حلم ملايين الناس. قدرته تمثلت فقط في أنّه حقق الحلم بطريقة مسرحية بسيطة. قدرته في أنّه اختار التوقيت: آخر زيارة لبوش. قدرته في أنّه اختار الجملة المناسبة: «قبلة وداع». اللعنة، لم يكن بإمكان الأمر أن يكون أكثر إتقاناً من هذا. إنّه متقن، حتى أنّ المرء ما يكاد يصدق أنه حصل. متقن حد أنّ قوة كبرى كان عليها أن تكون وراءه.
هناك من يدبرون مشاهد مسرحية في اجتماعات ومؤتمرات. يصرخون في وجه الشخص المعني، أو يرفعون يافطة، أو يرمونه بالبيض. لكن ما فعله الزيدي كان أكبر من هذا كلّه. لقد صاغ التاريخ في عبارة «قبلة وداع». صاغ المستقبل في عبارة.
وتقول وسائل الإعلام إنّ قطرة دم شوهدت في المكان الذي جرّ منه الزيدي.
لم يكن يريد أن يكون شهيداً بالتأكيد. كان يريد أن يسحب الستارة، وأن يعلن نهاية عالم بكامله.
وقد فعل!
* كاتب فلسطيني مقيم في رام الله