strong>نزار صاغية * يهدف إعلان المبادئ وفق المسودة التي دعت وزارة الإعلام بعض الإعلاميّين إلى مناقشتها إلى التمهيد «لوضع شرعة تفصيليّة لآدابهم المهنيّة». وإذا كان إعلان المبادئ بمثابة ميثاق شرف غير ملزم، إلا أنّه يمكن أن يؤثّر معنوياً في المحاكم التي ربما تسترشد به في التوسّع أو التشدّد في التجريم، كما يمكن أن يمثّل رافعة لاقتراحات قوننة مستقبلاً. والواقع أنّ الإمعان في الإعلان المقترح يظهر أنّه يهدف ليس إلى استنهاض الإعلام أو تصويب مساره، بل أوّلاً إلى الحدّ من حريته في نقد السياسيين (وبالأخص أكثرهم تورطاً)، وذلك تحت عنوان نبيل مفاده «نبذ العنف الكلاميّ»، تيمّناً باتفاق الدّوحة الذي «نبذ» العنف والتحريض الطائفي والسياسي. وإزاء ذلك يصحّ تسميته وثيقة من وحي اتفاق الدوحة (اتفاق المجاملة) أكثر مما يصح إعلانه نصاً تأسيسياً لشرعة الآداب الإعلامية.
والواقع أنّ هذا الاستنتاج يتحصّل من أمور عدة.
فمن جهة أولى، نجد على طول المسودة وعرضها هوساً (بكل ما للكلمة من معنى) في ثني الوسائل الإعلامية عن الإساءة بحقّ خصومها السياسيّين الذين هم في الغالب أنفسهم الذين وضعوا اتفاق الدوحة. والفرضية التي صرحوا بها في ثناياها هي أنّ لوسائل الإعلام مصالح ومواقف سياسية مما يجعلها في حال خصومة مع سياسيين يصبحون غالباً موضع تهجّم، ما يفرض إعادة تنظيم هذه العلاقة وفقاً لروحية الطائف ونصه. وفيما برّأ قانون العقوبات صراحة الذمّ بالقيمين على خدمة عامة في حال تناول مخالفات ثبتت صحتها وذلك لافتراض وجود مصلحة اجتماعية بذلك، أدانت المسودة كل أشكال الإساءة دون أي استثناء. كما أنها أطلقت العنان لعدد كبير من المفردات المطاطة، صفّتها تباعاً، بمناسبة أو دون مناسبة، بطريقة لا تخلو من التكرار والتوكيد، منها التشهير والتحريض والبذاءة والتهجم والتهكم والإهانة والتهديد والتخوين والحض على العنف أو على الكراهية والدعوة إلى الانتقام ولغة الشجار والتحقير والتشويه والتحوير والإثارة والتوتير والتعبئة وتعميم الانقسام والإساءة إلى كرامات الجماعات والأشخاص ونبذ العنف الكلاميّ والمعنويّ ونشر المعلومات الكاذبة فضلاً عن الإيحاءات الملتبسة والصياغات الغامضة. فما القصة؟ ماذا يحصل؟ وكيف نفسر تدافع كل هذه المفردات الواحدة تلو الأخرى في وثيقة لا تتعدى نصف صفحة؟ وهل يعلم واضعو المسودة أنّ عدداً كبيراً من هذه المفردات التي يلقونها جزافاً دون تفكير كانت محل مناقشات مطولة وصياغات قانونية معدلة حرفاً فحرفاً في دول عدة، ومنها لبنان، وذلك للحؤول دون سوء استعمالها في ضرب الحريات أو على العكس للتمكن من ذلك؟ وهل تسنى لهم الاطلاع على سبيل المثال على الجدل القانوني الذي دار منذ 1881 في فرنسا عند إقرار قانون حرية الإعلام بشأن مفهوم التحريض المعاقب عليه، فاشترط المشرّع أن يكون تحريضاً مباشراً على ارتكاب فعل معيّن وأن يؤدي إلى نتيجة فعلية وذلك منعاً لأي اتهام تعسفي مطّاط؟
والواقع أن إقرار إعلان مبادئ بمفردات مشابهة إنما يشبه فعل ندامة تلتزم في إثره وسائل الإعلام التي توافق عليه الامتناع عن الإساءة إلى أصحاب المعالي باسم المجاملة الاجتماعية، فهم يبقون «رموزنا الوطنية» وتبقى كراماتهم وهيبتهم أمانة في أعناقنا وعربون السلم الأهلي (بالطبع العبارة لا تعبر عن أفكاري بل هي محاولة استقراء للجو العام). وبالطبع، لا يضير أحداً أن يؤدي الإعلام فعل ندامة أو حتى أن يحاسب عما أسهم فيه من أجواء سلبية خلال السنوات الماضية، لكن المفجع أن تبدأ جردة المحاسبة بتحصين السياسيين إزاء أيّ إساءة. والأفجع من ذلك كله هو أن يتم تحصين هؤلاء ليس على أساس توافق ظرفي قد يفهمه البعض إنما على أساس وثيقة اسمها إعلان مبادئ وتقدّم كمستند تأسيسيّ للآداب المهنية! فكأنما واضعوها نسوا أن لغالبيّة الطبقة السياسيّة الحاضرة ماضياً (بل حاضراً) أسود من حق الناس أن يعرفوه، ولا سيما لمن أراد تولّي منصب عام، وأنّ الإعلام هو المسؤول الأول عن حقائق مماثلة وربما المسؤول الأوحد بشأن الحقائق التي أعتقها قانون العفو من المحاكم. فأيهما الأخطر؟ التشهير بأحد هؤلاء عند ترشحه لتولي منصب عام تحذيراً للرأي العام ومن باب الواجب الوطني أم غض الطّرف عنه عملاً بإعلان المبادئ؟ لا بل أيهما أخطر، التشهير به أم تمجيده مع ما يستتبع ذلك من مفاعيل تربويّة على النشء الذي قد يظن أن اقتراف مجزرة يستحق إقامة نصب وتقديم الأضاحي لا للضحايا بل للسفّاح؟ بل أيهما الإعلامي الأنسب من زاوية الآداب المهنية، إعلامي شجاع يتحدى الترهيب ويجهد لكشف حقائق مماثلة ملتزماً بما بات يعرف «موجب الذاكرة» أو حق المساءلة، أم إعلامي يضاعف ضروب المجاملة والتزلّف والتبجيل وتمجيد كبار المجرمين أو الفاسدين ضمن نظام غالباً ما يسوده تبادل الخدمات وبكلمة أكثر دقة الرشوة؟
لا بل إنّ مسودّة الإعلان ذهبت أبعد من ذلك في تقييد حرية الإعلام التي تعلن التمسك بها (ونتساءل كيف؟). فالإشارة الوحيدة إلى النقد المعارض للقيمين على خدمة عامة وردت ليس في سياق التأكيد على دور الإعلام في فضح الفساد أو مكافحته أو تصويب العمل العامّ (فهذه الأمور لم تذكر قطّ، وهل يعقل؟) بل في سياق التحذير من الانزلاق من «النقد إلى الإهانة، ومن المعارضة إلى التهديد ومن المساءلة إلى القدح والذم ومن اختلاف الرأي إلى التخوين». والواقع أنّ ذكر النقد والمعارضة في هذا المكان (التحذير من الانزلاق) حصراً دون إعلان أي إيجابية لهما إنما يعكس حذراً وارتياباً شديدين، ولكن أيضاً ضيق صدر وحساسيّة شديدة وتالياً توجّهاً إلى التوسع في تعريف الإهانة والتهديد والقدح والذم والتخوين وهو توجه غالباً ما مثّل الباب الأوسع لضرب حرية الرأي ومعه إلى فرض رقابة ذاتية على الإعلاميين الذين يصبحون كأنهم يمشون بين قطرات الماء.. يكفي من أجل ذلك استعادة بعض الملاحقات على أساس «الهيبة» في فترة التسعينات، والتي آلت إلى تحويل النقد الموجه إلى بعض مؤسسات الدولة إلى اتهام ضد مطلقه، أياً كانت مدى أحقيته، كل ذلك على أساس توسع في تعريف مفهوم الهيبة التي تتنافى مع إعلان أي مخالفة في عمل المؤسسات (حتى لو حصلت فعلاً). وأشهرها على الإطلاق التلويح بملاحقة السيد وجدي ملاط (الرئيس السابق للمجلس الدستوري) إثر استقالته من منصبه على خلفية التدخلات السياسية في الطعون النيابية!
أما الأمر الثاني الذي نستشفه من مسودة الإعلان المقترحة، وهي تؤكّد أيضاً سواد الهوس المشار إليه أعلاه، فهو خلوّها (هي التي يفترض أن تؤسّس لشرعة الآداب) من أيّ أبعاد من شأنها تعزيز الثقة بالإعلاميين أو ثقتهم بأنفسهم أو استنهاضهم كأشخاص أو كمؤسسات لأداء دور اجتماعي فاعل. والسؤال: هل يعقل أن يوقع الإعلاميون، بما يمثلون على صعيد الحياة العامة، إعلان مبادئ جلّه إدانة للنفس وفعل ندامة، دون إعلان أيّ طموح لاستعادة ثقة الناس وتحسين الأداء، استدراكاً لما فات؟
فالدور الوحيد للإعلام الذي أبرزته المسودة في «مبدئها» الأول هو إيلاء الأولوية لنقل الخبر ومن ثم تحليله والتعليق عليه وذلك ضماناً لحق المعرفة فيكوّن المتلقي رأيه بحريّة، وذلك قبل أن تسترسل في عرض سائر «المبادئ» بهدف توجيه هذا الدور وإحاطته بعدد من الضوابط حسبما تقدم، منها الإحجام عن نشر بعض الأخبار كالتي من شأنها الحض على العنف والكراهية والانتقام ألخ... والواقع أنّ تحديد أولويات الإعلام على هذا الوجه إنما جاء في سياق تحجيم سائر أدواره، كدوره التوجيهي للرأي العام، أو دوره الاستقصائيّ في مراقبة القيّمين على خدمة عامة ومكافحة الفساد أو دوره في طرح القضايا الاجتماعية.
وإذا تضمنت المسودة أهدافاً برّاقة كتعزيز لغة التسامح والتنوع واحترام الاختلاف، فهذه الشعارات جاءت في الواقع بطريقة منتظمة مرتبطة بالاختلاف السياسي على نحو يدعو إلى الانفتاح على المختلفين سياسياً وعرض وجهات نظرهم دون أن تتضمّن أيّ إشارة إلى إفساح المجال أمام الفئات التي تعاني ضعفاً أو وصماً أو عزلاً أو تهميشاً، ولا أي إشارة إلى التعددية أو ضمان التعددية أو المساواة في الظهور. بل لا نجد أي إشارة إلى وجوب اعتماد الموضوعية والنقد الذاتي وتجنّب الآراء المسبّقة (وكلها إشارات لا تخلو منها أي مبادئ إعلامية جدية). ومن هذه الزاوية، بدا الإعلان المقترح موافقاً للخطاب العامّ السائد لجهة تعريف الأهداف الجميلة على قياس القادة السياسيين وتطويعها لمصالحهم. فكما اختزل اتفاق الدوحة صحة التمثيل الانتخابي بصحة تمثيل هؤلاء القادة، والمصالحة بمصالحة فوقية في ما بينهم وهي ما برحت تطرح بهذه الطريقة منذ انتهاء الحرب 1975ـ1990 رغم ألف اعتراض واعتراض، كذلك يقتضي تعريف التسامح والتنوع والاختلاف على قياسهم. وفي الاتجاه نفسه، دعا الإعلان المقترح إلى تعميم لغة التّخاطب بين «اللبنانيين»، تأكيداً على طابعه السياسي، فيما خلا من أي إشارة إلى العنصرية واحترام مشاعر الشعوب الأخرى، ومنها شعوب عانت مع اللبنانيين ويلات وشدائد وعلى رأسهم اللاجئون الفلسطينيّون أو العمال السوريون الذين كانوا بالمناسبة أول ضحايا ما بعد شباط 2005. والتمييز هنا على هذا النحو يشبه إلى حد كبير التمييز الوارد في قانون العقوبات لجهة معاقبة العنصرية فقط إذا طالت عناصر عرقية من الأمة اللبنانية.
ثم، هل من أثر في المسودة للمبادئ المتصلة بمواصفات الإعلاميين، بعلمهم، بنزاهتهم، بموضوعيتهم، بشجاعتهم، بتجردهم المهني إزاء مختلف أشكال الإغراء والترهيب، إزاء الرشوة، إزاء تعارض المصالح، إزاء خطورة المبالغة في التّدليس والمجاملة والتّبجيل والتّمجيد وكلها أفعال لا تلقى أي تنديد أو تشكيك؟ هل من أثر للمبادئ المحفّزة في هذا الشأن فيجد فيها الإعلاميّ الإصلاحيّ مكاناً، بل اعترافاً بوجوده؟ بالطبع، لا.. فالهوس قلّما يتيح حسن الرؤية.
أمس، عمدت الطّبقة السياسيّة إلى شلّ القضاء ومعه المحاسبة ودأبت لهذه الغاية على استفراد القضاة واستتباعهم باسم موجب التحفّظ. وثمّة من يسعى اليوم إلى إضعاف الإعلام تخفيفاً لحدّة المساءلة. ويبدو أن مدخله إلى ذلك هو استغلال «الأخطاء الإعلاميّة» (وهي كبيرة بلا ريب) لإقناع الصّحافة بلزوم أدبيات هي في الواقع أدبيات «مجاملة»، فيخضع القلم هو أيضاً لرقابة ذاتيّة أو ما يشبه موجب تحفظ!
*محامٍ وباحث في القانون