تأتي حماسة وزير الإعلام طارق متري لإعلان مبادئه الإعلاميّة في توقيت مستغرب بعض الشيء. فأمام الحائط السياسي المسدود، تبدو الحاجة ماسّة إلى نقد خطاب الأطراف السياسية كافّةً، لا إلى التفتيش عن كيفيّة كمّ الأفواه. فما الذي ورّط متري في إعلان كهذا، أهو الانحياز السياسي أم مجرّد سذاجة؟
أسعد أبو خليل *
تستطيع أن تقولَ الكثير عن طارق متري كظاهرة غير فريدة للمثقف والسياسي في لبنان. تستطيع أن تعودَ إلى ماضيه اليساري في الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، وأن تحلّلَ في عجالة يساريّاً سابقاً آخر. تستطيع أن تعودَ إلى مجيئِه إلى الحكم مُرشحاً ومُزكّى من إميل لحّود، ليعودَ وينقلبَ في أقل من سنتين ويتحوّلَ بقدرة قادر إلى مرشّح دائم لفؤاد السنيورة. تستطيع أن تعزو سببَ تغيير خطابه بالكامل (في أقلّ من سنتين) إلى أسباب بريئة: كأن تصدّق أنه غيّر وجهة نظره بناءً على قناعة ووجهة نظر. يمكن أن يكون الوزير متري قد تأثّر بقوة حجّة سعد أو نادر الحريري، وهذا ممكن. تستطيع أن تذكّره بخطابه الفاشل جداً في مجلس الأمن في حمأة العدوان الإسرائيلي على لبنان. لكن ليس هذا هو موضوعنا. فموضوعُنا هو مسوّدة «إعلان مبادئ» للمؤسّسات الإعلاميّة التي أعدّها الوزير متري وعرضها على ممثّلي الوسائل الإعلاميّة في لبنان، وإن غاب السفير السعودي عبد العزيز خوجة عن الاجتماع لأسباب طارئة.
يبدأ البيان في فذلكته أو ديباجته من منطلق «الحرص على حريّة وسائل الإعلام». وعندما تقرأ ذلك تتيقّن قبل أن تستمّرَ في القراءة أن نيّاتٍ مبيّتة للقمع سترد في ما بقي من الإعلان. ويعود الوزير ليؤكد على «أصول المهنة وأخلاقيّاتها». لم يقل الوزير ما يعني بـ«الأصول» أو بالأخلاقيّات ومن يحدّدها. هل سيبادر هو هنا لتطويع وزارتِه الموقّرة في مهمّة تحديد تلك الأصول وتلك الأخلاقيّات؟ ويعود الوزير ليورد كلاماً جميلاً عن «قيم التسامح والحوار»، لكن هذا الكلام مثير للقلق، وخصوصاً أنّ الوزير ينتمي إلى المحور السعودي (وهو للإنصاف على مسافة واحدة من كل الأطراف السلفيّة في لبنان، ولا يقدّم طرفاً سلفيّاً على آخر). هل تكون قيم التسامح والحوار مقدّمة لإدخال لبنان في لقاء حميم مع شمعون بيريز كما فعل الملك السعودي بعذر الحوار والتسامح؟ ثم إذا كان الوزير حريصاً بالفعل على قيم التسامح، فهل سيرفع صوته معنا لإدانة قطع الرؤوس، ورجم العشاق في مملكة الوهابيّة التي تمثّل حتى بمعيار وزارة الخارجيّة الأميركية نموذجاً متطرّفاً من التعصّب والتزمّت الديني حول العالم؟
لكن الأبرز في نيّات الوزير ظهر في كلامه عن «نبذ العنف المعنوي والكلامي». هذا الكلام بحدّ ذاته يشكّل تعارضاً وتناقضاً مع الحريّات الإعلاميّة في الدول الديموقراطيّة التي يدّعي الجميع في الوطن التعيس الانتماء إليها. فريق آل الحريري يعدّ العدّة لفرض قيود وضوابط وقمع على الحريّات الإعلامية في لبنان بمسميّات مختلفة، ونيابة عن المملكة السعوديّة التي تتنادى أبواقُها في لبنان (وهي كثيرة مثل «الهمّ على القلب» ـــ كم هو حزين الذي طلع بهذا التعبير) أخيراً لاستنكار «الحملة الإعلامية» عليها كأنّ الإعلام اللبناني لا يتضمّن نقداً قاسياً ضد أنظمة أخرى بما فيها سوريا وإيران. والنقد ضد دول المحورين يجب أن يستمرّ إذا كان لبنان يتغنّى فعلاً (لا قولاً) بحريّاته الإعلاميّة. لكن نيّات فريق الحريري لفرض قمع على الحريّات الإعلامية جاء مبكّراً في مذكرة أعدّها رفيق الحريري لمؤتمر الطائف (وأثبتها في كتابه عن الطائف جورج بكاسيني نفسه). هذا أسلوب بات صريحاً في خطاب العائلة الحاكمة في لبنان ـــ أو العائلة التي تكاد أن تصبح حاكمة في لبنان لولا معارضة نصف لبنان على الأقل. ما هذا التساوي بين الكلام (حتى لو كان قاسياً وصارماً وحازماً أو بذيئاً) وبين العنف. الكلام هو كلام، والعنف هو عنف، ولا يخلطُ بينهما إلا الأنظمة التسلطيّة والتوتاليتاريّة. لكن هذا المفهوم يبدو أنه أصبح سياسة رسميّة للفريق الحاكم، وذلك من أجل كمّ الأفواه وخنق الأصوات وقمع الحريّات. ويشتمّ الواحد (والواحدة) ضيقاً ما بعده ضيق في وسائل الإعلام السعوديّة من جريدة واحدة في لبنان تجرؤ على نقد السعودية، مع أن إعلام آل سعود (وما تبعه من إعلام آل الحريري) يأخذ راحته في نقد أنظمة لا تتوافق معه، وإن كنا نلاحظ أن إعلام آل سعود (وما يتبعه من إعلام آل الحريري) يسامح أي نظام يصالح الحكم السعودي، ويتوقف عن نقده بسرعة عجائبيّة.
إن مساواة الكلام بالعنف خدعة أورويليّة يجب ألا تنطلي. دعني أنوّر وزير إعلام الفريق الحاكم حول أمور حريّات الرأي في الدول الديموقراطيّة، وهو قد عاش ردحاً في إحداها. في أميركا، مثلاً، يميّز القانون (أو التفسير الفقهي للدستور في تعديله الأول حول حريّة الرأي) بين الكلام الحق والكلام الباطل. كما أن معيار التقويم الدستوري لحريّة الرأي يقبل أيضاً بمعيار التعبير المضبوط والتعبير غير المضبوط. ويكفل حق التعبير هنا حرية الرأي والتعبير حتى للكلام الباطل، أما الكلام الحق فلا يخضع لضوابط البتّة، كما أن وضع الضوابط عليه يمكن أن يُعرِّض الحكومة (أو الرئيس) إلى مساءلة اشتراعيّة وقضائيّة (يُراجع تاريخ حريّة التعبير في أميركا في الكتاب الجديد لأنتوني لويس بعنوان «حريّة الفكر الذي نكره: سيرة ذاتيّة للتعديل الأول للدستور الأميركي» والذي يشرح فيه تطوّر حريّة التعبير التي لم تكن مضمونة منذ إنشاء الجمهوريّة، إذ إن الحكومة الأميركيّة جَرّمت «ذم» الحكومة في أواخر القرن الثامن عشر، على طريقة قانون «العيب» لأنور السادات، أو قانون «إطالة اللسان» في الأردن، أو قانون «إضعاف نفسيّة الأمة» في سوريا، وهلم جرا). ولا يستطيع من يكون ضحية كلام باطل وخاطئ أن يقاضي بتهمة الذم من قال كلاماً كاذباً عنه، إلا في حالات محدّدة يستطيع فيها الداعي أن يثبت ليس كذب القائل أو الكاتب، وإنما نية الكذب مع (إثبات) علم الحقيقة. وهذا السقف العالي جداً في القانون الدستوري يجعل إمكان إثبات الذم غير المكفول تحت القانون شبه مستحيل. طبعاً، يختلف السقف بين دولة وأخرى، ولبريطانيا مثلاً سقف أدنى من ذلك. كما أن القانون هناك يميّز بين هدف الكلام والكتابة الكاذبة: يكفل القانون حق الكذب ضد من هو «تحت العين العامة»، أي من هو في موقع المسؤوليّة أو مَن كان مِن المشاهير.
قد يقول متري إن هناك حالات تستطيع الحكومات فيها أن تقيّد الحريّات إذا ما كان التعبير الكتابي أو الشفهي يُشكّل ـــ حسب تفسير المحكمة العليا في البلاد، والتي لا تخضع لا لسلطة الرئيس ولا لسلطة الكونغرس ـــ «خطراً حاضراً وواضحاً» للسلامة العامة. أما مسودة فرمان الوزير متري فيُراد منها إناطة مسؤوليّة تحديد إمكان تشكيل الخطر في يد الحكومة نفسها، فيصبح نقد واقع المرأة في السعودية مثلاً «خطراً» على السلامة العامة في لبنان. هذا كلام لا ينطلي من وجهة النظر القانونيّة أو الدستوريّة يا وزير الإعلام.



ويستنجد الوزير في إعلان نياته التسلطيّة بـ «روح اتفاق الدوحة». أولاً، لنلاحظ أنّه ليس هناك من قانون في الدنيا يلحظُ وجود شيء قانوني أو دستوري يُسمّى «الروح». ما هي الروح يا وزير متري؟ وهل لجأت اليومَ إلى تحضير واستجلاب الأرواح؟ لكنك هنا كالمستجير من الرمضاء بالنار. أما عن اتفاق الدوحة، فهو (مثل كثير من الاتفاقات والقبلات والعناق بين الساسة في لبنان) لا أساس له من الناحية الدستورية أو القانونيّة. ومن يحدّد (غير المشعوذ أو البصّارة) ماهية «روح اتفاق» الدوحة. كان بيار الجميل يقود البلاد إلى حرب أهلية وكان يتحالف مع العدو الإسرائيلي، وكل ذلك باسم روح الميثاق. أبعِدْنا عن الأرواح يا وزير. ثم يضيف متري كلاماً مُكرّراً عن «وقف لغة التخوين والتحريض السياسي والمذهبي». في هذا الكلام هنا نفاق أكيد لن تنفيه عبارات «والله» أو «تالله» أو غيرها. أولاً، من يحدّد مرّة أخرى غير جنابكم معيار لغة التخوين؟ هناك التباس هنا لأن هذا الوصف يُستخدَم وبسهولة فظيعة في لبنان من أجل إسكات الصوت المُعارض. ثم أين كنتَ يا وزير متري عندما أقدم زميلُك أحمد فتفت ـــ ما غيره ـــ في الوزارة السابقة على اتهامي أنا شخصيّاً بالخيانة من على صفحات هذه الجريدة، لا لشيء وأنما لأنني انتقدتُ (أو «تطاولتُ» حسب تعبير فتفت) على رفيق الحريري. هل تنطّحتَ يومها كحريص على عدم اللجوء إلى التخوين على استنكار كلام فتفت؟ هل قلت كلمة واحدة آنذاك؟ ولأنه ليس من السهل الاتفاق على تحديد واضح لمفهوم التخوين، وخصوصاً أن صولانج الجميل التي كانت تعدّ أطباق المازة لأرييل شارون (كما ذكر هو في مذكراته) تجلس تحت قبّة البرلمان وأن بطريرك الموارنة لا ينفكّ عن المطالبة بالعفو عن القتلة والعملاء والجزّارين في جيش لبنان الجنوبي، فقد بات مفهوم الخيانة ملتبساً بحدّ ذاته، وهذا ضارّ. وعندما يصبح الاتفاق بين الشعب في لبنان معدوماً حتى على كون العدو الإسرائيلي عدواً، يصبح كل كلام عن رفض التخوين وما شابه ذلك كلاماً معلوكاً وجزءاً من الردح السياسي المُتبادل.
وهناك ما هو أخطر يا طارق متري. عندما يستمرّ الفريق الحاكم باستنكار التخوين (مع أنه يلجأ إليه بانتظام ضد خصومه)، هل هو يُعدّ لبنان لمرحلة تنتفي فيها الخيانة برمّتها من القانون اللبناني؟ وماذا عن الخيانة نفسها؟ ماذا عن التعامل والتخابر والتحالف مع العدوّ الإسرائيلي والذي لا يزال القانون اللبناني الموضوع يعاقب عليه؟ هل هذا ما عناه البطريرك في عظة أخيرة له عن ضرورة إبطال قوانين ومفاهيم تعود زمنياً إلى مرحلة الاحتلال (والاحتلال عنده إشارة فقط إلى سيطرة النفوذ السوري في لبنان، ولا نذكر أن البطريرك قال كلاماً ضد الاحتلال الإسرائيلي، لا بل إنه طالب بأن يتفاهم لبنان مع «كل جيرانه»). إن الخيانة والتخوين جزء من النقد في كل البلاد الديموقراطية، وهي سارية على قدم وساق في هذه البلاد، والكاتبة اليمينيّة آن كولتر كتبت كتاباً كاملاً بعنوان «خيانة» خوّنت فيه الليبراليّين والليبراليّات في أميركا. الخطر ليس في استعمال الأطراف للتخوين، وليس فقط في استسهال إطلاق الأوصاف والنعوت من قبل أحزاب ومنظمّات، بل في التخوين من قبل الحكومات (وكل الحكومات العربيّة استعملت مصطلحات وقوانين التخوين لأسباب سياسيّة، ما عطّل إمكان ملاحقة من يخون وطنه حقيقةً. كيف يمكن ملاحقة عملاء إسرائيل في لبنان إذا كان رستم غزالة يزجّ تحسين خيّاط في السجن بتهمة العمالة لإسرائيل لأنه لم يخضع له مثلاً؟). ويمكن للحكومات أن تقمع تحت باب التخوين وتحت باب منع التخوين أيضاً. وفريق طارق متري ينوي الحدّ من الحريّات في لبنان تحت عنوان منع التخوين من قبل وسائل الإعلام. التخوين جزء من حريّة التعبير في البلاد، مثلها مثل حريّة تبادل أقذع النعوت والأوصاف بين أطراف الصراع السياسي.
ولا يجب أن يحاول طارق متري أن يمرّر أي قانون للإعلام يعطي لأهل الساسة حريّة تفوق تلك الحريّة المعطاة لـ(أو المكتسبة من) وسائل الإعلام. فأهل السياسة يتبادلون إطلاق عبارات التخوين والإهانة تحت قبّة البرلمان (التي تجلس تحتها صولانج الجميّل)، وهذا حقّهم، كما هو حقّ الناس في البلاد. أما المساواة بين العنف والتعبير الكلامي أو الشفهي فهذه خدعة سخيفة لا يمكن أن تستند إلى قانون ديموقراطي، وفيها من المفارقة ما في كلام السنيورة عن «ديموقراطية الكفاءة» وحضرته عضو في فريق يرأسه سعد الحريري، وكأن الأخير ترأس الفريق بكفاءته يا محسنين ومحسنات. إن الأنظمة الديموقراطية، لا الأنظمة الوهابيّة التي ترعى فريقك يا طارق متري وتحتضنه، لا تضع قيوداً على الكلام، أو لا ترى في الكلام عنفاً إلا في حالات يتضمّن فيها الكلام تهديداً بالعنف الجسدي. كل ما عدا ذلك هو محاولة منكم لتقييد حريّة التعبير مهما استعملتم من كلمات تساوي بين العنف والكلام. ومن المضحك (أو المحزن) أن تعتبر حكومة السنيورة نقداً لمسار سياسي معيّن كلاماً عنيفاً، أو عنفاً لفظياً، في الوقت الذي تضم فيه بين قياديّيها من حرّض على قتل رئيس دولة مجاورة (ليس إسرائيل) ومن دعا أميركا في واشنطن إلى إرسال سيارات مفخّخة إلى دمشق. هذا الكلام لا يشكل عندكم أي نوع من العنف، لكنكم تعترضون على وصف كاتب بـ«اليساري السابق»، وتعتبرون الصفة تهديداً له وتحريضاً يهدّد سلامته. من أين تأتون بالمعايير يا وزير متري؟
لكن الوزير متري يعود في بند آخر من مسودة إعلان طوارئه (وهو شبيه بإعلانات طوارئ دول عربيّة كانت تزعم في ما مضى العمل على تحرير فلسطين، وتقيّد الحريّات باسم تحرير فلسطين) ليعلن سعيَه لـ«تأمين تغطية متوازنة». متوازنة؟ مرّة أخرى مَن يحدّد؟ ثم، ألم يلفت أحد نظرك إلى أن عبارة التغطية المتوازنة أصبحت نكتة على الصعيد العالمي لأن محطة «فوكس نيوز» اليمينيّة، وهي الأكثر انحيازاً بين كل وسائل الإعلام هنا، تروّج لنفسها بشعار «مُنصفة ومُتوازِنة»؟ هل سيكون توازن الإعلام الذي تدعو إليه على طريقة «فوكس نيوز»؟ ويعبّر الوزير متري عن سذاجة، أو عن تضليل، عندما يدعو إلى الفصل بين الرأي والخبر؟ وكيف سيكون ذلك يا مستر متري؟ وهل هناك إمكان للفصل؟ هذا الكلام يجب أن يستعين بكتاب بيار بورديو «عن التلفزيون»: فهو يتحدّث عن واقع يخلقُه الإعلام ـــ لا عن واقع يعكسه الإعلام، حتى من دون تدخّل مباشر من الدولة. أي أن بورديو يحذّر من نوع جديد من الرقابة، يخلقه سراة الجهاز بطريقة غير مباشرة. وهناك في ظل الرأسماليّة ضوابط وقيود على التعبير تنبع من طبيعة طغيان رأس المال، وخصوصاً أن إعلام التلفزيون الباهظ الثمن يطغى على ما عداه في العصر الحديث. لننظر إلى إعلام العالم العربي. الإعلام غير الخاضع لسيطرة احتكار رأسمال آل سعود وآل الحريري (ومن لفّ لفهم) يُعدّ على أصابع اليد الواحدة.
ويذكرنا متري في حديثه عن «المصلحة المشتركة»، ببيانات حزب البعث في الستينيات. أي مصلحة مشتركة هي هذا، و«الدم صار ماء، يُراق كل يوم» (كما قال أمل دنقل) في شوارع بيروت وطرابلس يا وزير الإعلام. إذا كان اللبنانيّون لا يتفقون اليوم على تحديد العدو، تريد منهم أن يتفقوا على المصلحة المشتركة؟ قد تكونَ ابتعدتَ عن الواقع في برج السرايا. والنفس الأورويلي عند الوزير متري يبرزُ أكثر ما يبرزُ في البند الخامس من مسودته المشؤومة عندما يتحدّث من دون خجل يُذكر عن «تنقية» الإعلام من «التهجم» ومن «التهكّم». وما العيب في التهكّم يا حضرة الوزير؟ التهكّم والسخرية أداة كتابية وأدبية. ولو أردتَ فعلاً أن «تنقّي» الإعلام والمناهج الدراسيّة من «التهكّم» فعليك إذاً بمنع كتب الجاحظ وأحمد فارس الشدياق ومارون عبّود مرةً واحدة انسجاماً مع تلك المبادئ التي ترشد فلسفتَك الإعلاميّة. وهل ستخضع مقالتي هذه لرقابتِكَ لتنقيتِها من التهكّم؟ ماذا حدث لك يا وزير متري؟ كيف يمكن لمثقف، أو لمواطن، أن يدعو لتنقية التعبير من التهكّم؟ أوَتدري أبعاد ومضاعفات كلامِك؟ هذه مسوّدة يجب أن تُدرَّس في مادة الأنظمة التسلّطية في باب قمع الحريّات. وكيف تُنقّي الإعلام من «التهجّم»؟ ماذا تريد يا حضرة الوزير؟ هل ستمنع هجاء الحطيئة والمتنبّي أيضاً؟ ماذا ستُبقي لنا؟ ماذا سيحلّ بالحريّات لو تركنا لك حرية القمع والتسلّط؟ لقد بتّ حليفاً لأعداء الثقافة والحريّات، إن كنتَ تدري أو لا تدري.
ثم تزيد على المصيبة وتدعو إلى عدم «الإفراط» في النقد. أوَتمزح يا حضرة الوزير؟ هل استوردتَ هذه المسوّدة من نظام عربي تسلّطي؟ إفراط في النقد؟ هل ستحدّد لنا عيار النقد مثلما يحدّد لنا الطبيب معيار ومقدار الدواء؟ هل أصبحت صيدليّاً يا وزير متري؟ النقد بالمقدار؟ هل هذا مثل مفهوم فخري كريم عن «النقد المُباح»؟ وذهبتَ بعيداً جداً في بيانك إلى درجة أنك دعوتَ إلى منع التحريض والتعبئة السياسيّة؟ كيف يمكن أن يكون هناك سياسة من دون تعبئة وحتى تحريض سياسي؟ هذا جزء من العمليّة السياسيّة، حتى لا نقول اللعبة الديموقراطيّة التي لا تريدون (في المعارضة وفي الموالاة) لها أن تستقيم في الوطن التعيس.
لا يا حضرة الوزير. إن مشروعَك خطير وخطير جدّاً وهو يوحي بإرادات تنوي القضاء على الفسحة الضيّقة المتبقّية للتعبير في لبنان. ولا ندري لماذا قضّ مضاجعكم ـــ أنتم حلفاء ووكلاء آل الحريري ـــ بروز جريدة واحدة من بين كل الصحف لا تمتّ بصلة إلى مالكم الوفير. ثم إن نيّاتكم كانت واضحة منذ أن برز رفيق الحريري في العمل السياسي: وهو لم يقبل فقط بتضييق النظام السوري على الحريّات في لبنان، وشرعنها بحماسة، لا بل إنه أراد أن يذهب أبعد من غازي كنعان ومن رستم غزالة. هناك أكثر من محطة وجريدة سيقت إلى المحاكم وتعرضت للإغلاق أو التهديد بالإغلاق من جانب مؤسّس تيار «المستقبل السلفي». وهذا يشير إلى مسار من التضييق يتماشى مع التذمّر السعودي الرسمي على ما يلقاه في لبنان من بعض النقد القليل. وإعلام الحقائب (يتحدّث عنه بتفصيل إبراهيم سلامة في كتابه القيّم «غداً سندخل المدينة») يستطيع أن يُسكت الكثير من الأصوات وأن يبتاع الكثير من الأقلام وأن يستأجر الكثير من الضمائر وأن يحوِّل (أو يُحوِّر) الكثير من السير الذاتية، لكن لا يمكن له أن يُحكِم السيطرة بالمطلق.
لقد تغيّرتَ يا وزير متري، وتغيّرتَ كثيراً. بعض عارفيك من أيام الدراسة الجامعيّة يقولون إنك أصبحت شخصاً آخر. لن نناقشك في خياراتك: فهي شأنك، لكنك عرضة للمساءلة الديموقراطية وهذا حق للمواطن (والمواطنة) إزاء أي مسؤول. لكَ أن تتغيّر، فهذا شأنُكَ أنتَ، لكن لا حقَّ لكَ في محاولة فرض تغييرنا نحن، أو تغيير الرأي العام خدمة لغرض، مهما كان.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)