بيروت ـــ تورينو ـــ بيروت «آمال وشكوك» وخطوط التماسنوال العلي
القطط تموء في الطابق السفلي للـ Dôme (سينما «راديو سيتي» سابقاً) في ساحة الشهداء. وقعُ الأقدام يُسمع على الإسفلت المفضي إلى مكانٍ معدَمٍ، أشبه بالهيكل العظمي لملجأ نووي مبقور من زمن الحرب. مكان «مثيرٌ للاهتمام» كما يصفه القائمون على معرض «شكوك وآمال» الذي اختتم أمس في بيروت. كيف لا وقد كان داراً للسينما عاشت أشهراً قبل اندلاع الحرب الأهليّة... ثم صار قاعدةً لتبادل إطلاق النار عبر خطوط التماس. كأننا بالمعرض الذي استمر ثلاثة أيام، اختار أن يراهن على تلك الفوضى الزمانيّة والمكانيّة في رؤية بيروت والإحساس بها.
الأمل في بيروت والشكّ في هذا الأمل تنازعا أعمالاً فنية جمعت تشكيليّين إيطاليين ولبنانيين في معرض من تنظيم المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت ومؤسسة «ميرز» في تورينو. اختار المنظمون 16 فناناً من البلدين تجمع بينهم عناصر مشتركة مثل «النظرة المتسائلة التي يسلّطونها على العالم الحالي»، أو «موقفهم من الإبداع»، أو ربما تجسيدهم لـ«شباب الفن المعاصر بين لبنان وإيطاليا» حسب المنظّمينالمشرف على المعرض كوستانتينو دورازيو يعزو اختيار مبنى الـ«دوم سيتي» إلى أنّه «مفعم بالرمزية وما زال جرحاً مفتوحاً في بيروت من ذكريات الحرب، وواحداً من الأماكن القليلة التي لم تُمسّ ولم يتحدّد مصيرها». ما لا يعرفه كوستانتينو أن تلك القبّة الخرافيّة تحدد مصيرها فعلاً، وبدلاً من توظيفها هندسيّاً في التخطيط المعماري الجديد، سيجري هدمها في مستقبل قريب. على كل حال، سرعان ما يلاحظ زائر المعرض أن هذا الموقع المحزن جزء لا يتجزأ من علاقته بالأعمال المعروضة، بل يؤثر على طريقة تلقّيه لها... بل إن الحدث برمّته كان سيبدو مختلفاً في موقعٍ آخر. وربّما ستكون هذه حاله حين ينتقل إلى تورينو خلال الشهر المقبل، حيث ستحاذي أعمال الفنانين الشباب تحفاً لماريو وماريسا ميرز.
ثمة أصوات وعتمة خفيفة، يعود الزمن إلى ما قبل الحرب في وسط بيروت... الذاكرة تستدرج الأمل والواقع يُثير الشك. وبدلاً من روّاد السينما، هناك عشرات المجسّمات الصغيرة لجنود تكالبوا على درابزين الدرج، حيث الاقتتال المصطنع يدور طاحناً. إنّهم عسكر الفنانة زينة الخليل، ألف جندي وجندي من البلاستيك ألبستهم زينة لونها المفضّل... الزهري!
قبل قليل، كانت حبّات البطاطا تبتسم، تبكي وتصرخ بمئات الوجوه المرسومة عليها، فيما نسمع صوتاً من جهة مجهولة: «بطاطا، بطاطا». «مشروع البطاطا» لجينو شويري، يبدو كأنّه مجسّمات لمقابر جماعية تقابل الداخل عند أول عتبة قبل الصالة الكبرى في الأعلى، ويظهر أنّ المدفونين فيها ليسوا موتى تماماً، لعلّهم أحياء ميتون. أما خريطة مروان رشماوي المطاطية لبيروت، فباتت مشهورة وقد عُرضت في أماكن شتّى. خريطة مجسّمة هائلة بنتوءاتها من الكاوتشوك الأسود، تفترش أرض الصالة، إنها المدينة تحت أقدامنا... تقابلها خريطة أخرى حديثة على السقف، رسمها جيوسيبي بيترونيرو. كل هذا يحدث، بينما تهوي مطارق باسكال هاشم الستّ على الجدار برتابة ومثابرة، في تجهيز فراغي مكوّن من الستيل والخشب وتلك المطارق الكهربائية التي يتحكم فيها محرّك كهربائي. عمل معلّق في منتصف الجدار، يذكّرنا بمستقبل الـ«دوم» القريب، بمدينة تُبنى وتهدم طيلة الوقت، وهل أدلّ على ذلك من أصوات المطارق القاطعة؟ أصوات أخرى مقلقة تأتينا من الزاوية المقابلة: هناك تجمع إليزابيتا بيناسي بين نعيق الغربان وضجيج أبواب المرائب وهي تعلو وتهبط. يخيّل للسامع أنّ الغراب يحلّق خفيضاً من الأماكن المهجورة، فجأةً يرتفع باب المرأب باتجاه معاكس وصوت مفزع. في هذه الحالة، هل يمكن أن نقول نعيق المرأب؟! لم لا، ما دامت بيناسي تقدّم عملها بصفته «تجهيزاً صوتياً»؟
أما معارك الشوارع الإيطالية، فيرسمها أندريا سالفينو، أحداث سبعينيات إيطاليا بريشة تقليدية في لوحة كبيرة معنونة بـ«العمل شاق»، وفيها يظهر الملثمون في عنف الشوارع بألوان قوية وفاقعة. وكذلك تفعل ريما صعب في عملها «جدران بيروت»، إذ ترسم الحرب أيضاً كغالبية أبناء جيلها. بمواد مختلفة وألوان زيتية على الكانفاس، تصوّر باباً وقد أُوصد بالطوب. ملصقات ممزقة، إشارة مرورية تدل على مفترق طريق، إنّها المدينة نفسها التي تُهدَم في عمل، لتستحيل جداراً في عملٍ آخر. في عمل للمصوّرة الفوتوغرافيّة جوان عيسى، تقف ثلاث فتيات في ظل شجرة، النظرة نهمة على وجوههن، لكنّها من دون طائل. تحكي عيسى عن امرأة جذبتها مرةً، وما زال البحث عنها جارياً في وقفات و“تطليعات” الأخريات. فيما لماريا ميليورا قصة أخرى: هي تبحث عن طفولة نسائية في سلسلة لوحات صغيرة بالألوان المائية على الورق، وفيها تظهر الطفلة وحدها، أو الطفلة مع الشجرة، وربما الطفلة مع طفلة أخرى تحت الشجرة، ثم الشجرة وحدها، وهكذا دواليك.
أمّا لينا حكيم، فتقدّم تجهيزاً من الصناديق الخشبية المتصلة بقصاصات بنطالها الجينز الممزق، تسميها «لعبة بيروت»، بينما تصنع لويزا رابيا كوخاً من الخزف، نراه وقد استحال عشاً لشجرةٍ ميتة، يقول أحدهم إنّها تحكي عن الجذور أي الذاكرة، وتنتهي بالأغصان أي المستقبل، لكنّ أحداً آخر يشعر بأنّه عمل عن البيوت وقد هُجرت بلا رحمة. إليزابيتا دي ماجيو تأتي بعمل مدهش، ورقة بيضاء كبيرة. مشاهدة ورقة بهذا الحجم ليست أمراً متاحاً دائماً، ولا سيما أنّها منقوشة إلى درجةٍ ستبدو للبعيد قطعةَ دانتيل بولِغَ في تخريمها. هذا هو انشغال دي ماجيو: أن تخرّم الجدار الورقي.
الواقع صعب، إن لم يكن مستحيلاً، هذا ما نحسّه أمام ثماني صور فوتوغرافية لمايكل فليري، حيث يظهر رجل يحاول كل مرة إخفاء وجهه بطريقة ما: لا بد من أقنعة لائقة، لا تنظر إلى المرآة، تلهَّ عن نفسك، الوجوه يَحسُن إخفاؤها، تأمُرُنا صور فليري. أما صورة رندا ميرزا الملتقطة لبيروت، فعنوانها «عوالم موازية»، البنايات المشتعلة توازي تلك الزجاجية أو الفولاذية اللامعة. بيروت سرعان ما تتناسى، الفنانون جميعهم يتحدّثون عن مدينة واحدة! تسمع اللغط وهو يبتعد مثل وقع خطوات على إسفلت الطابق السفلي من «دوم»، بيروت تشبه امرأة لها ماضٍ، لا أحد يمكنه رؤيتها من دون تلك السنوات! حتى وإن لم يكن يعرفها.


ليست الحرب... بل أثرهاالمشاركون في «آمال وشكوك» هم ممّن برزوا في السنوات الـ 15 الأخيرة، حيث بيروت الملهمة لفنّهم لا شرقية ولا غربية، على الأقل هذا ما تظهره الأعمال. جيل شاب، لم يمارس بنفسه طقوس الحرب، وعلى الأغلب لم يكن شريكاً حقيقياً فيها. إنّه الجيل الذي راقب وتنقّل وربما هاجر حتى انتهى كل شيء. وقد يكون لذلك الفضل في تراجع السياسة أمام الفن. الفنانون كانوا غالباً متنبّهين لأهمية تربية موقف متيقظ من الحرب لدى استخدامها في الفن. ما نراه هنا، ليس الحرب، بل أثرها.