الفنان الحقيقي هو مَن يثير الجدل ويقسم حوله الآراء. هكذا كانت الحال مع التسجيلات السابقة لعازفة البيانو الفرنسية، وهكذا ستكون مع ألبومها الجديد
بشير صفير
عندما صدرت أسطوانتها السابقة (راجع الأخبار، أول أيلول/ سبتمبر 2007)، أحدثت عازفة البيانو الفرنسية هيلين غريمو (1969) ضجّةً في الوسط الموسيقي الكلاسيكي. حينها، انقسَمت الآراء النقديّة بين منبهرٍ بما استطاعت إضافته إلى بيتهوفن، ومنتقدٍ لأدائها العادي ولمبالغتها في إظهار صورتها كنجمة بوب (حتّى إنّ بعض النقاد علّقوا على عدد صورها الواردة في كُتَيِّب الأسطوانة). على رغم اختلاف الآراء بشأن أعمالها، تبقى هيلين غريمو واحدةً من صانعي الحدث ضمن فئتها، منذ توقيعها عقداً حصرياً مع شركة «دويتشيه غراموفون»، ومنذ إصدارها لأسطوانة مع شركة «وارنر».
في أعمالها السابقة، لم تسجل غريمو أيّ عملٍ يعود تاريخه إلى ما قبل الحقبة الرومنطيقية (ما عدا عمل صغير لباخ ورد «متخفّياً» في أسطوانة «كريدو» ـــــ 2003). هكذا ذهبت حصة الأسد في ريبرتوارها إلى الرومنطيقيين مثل بيتهوفن، شومان، برامز، وشوبان، إضافةً إلى مؤلّفي القرن العشرين مثل راخمانينوف، بارتوك، بارت، وكوريغلياني.
هنا، يكتسب جديدها أهمية إضافية، إذ قفزت من الرومنطيقية ما بعد الكلاسيكية، إلى حقبة الباروك، لتحل ضيفةً على الملك: باخ. بعدما حلّ «متخفّياً» على أسطوانتها قبل خمس سنوات، اختارت العازفة الفرنسيّة اليوم أعمالاً لباخ لتُسجّل منها أسطوانةً كاملةً تضمّ مقطوعات للبيانو (مكتوبة بالأصل للكلافسان)، وكونشرتو البيانو الأول، وأعمالاً منقولة من الفيولون والأورغ إلى البيانو لليست وبوزوني (المتخصصَيْن بالنقل أو الـ«ترانسكربْشِن») وراخمانينوف.
من المؤكد أنّ «جميلتنا» لن تحصل على الإجماع، مع العلم أنّ أداءها أمينٌ إجمالاً، لا مبالغة فيه لناحية تحوير الإيقاع أو الدينامية. لكنّ الأمر المحيِّر، هو تنفيذها العادي هنا، وغير الموفَّق هناك، علماً بأنّ تنفيذها الرائع والفريد لقليل من الجمل المفصلية أنقذ الألبوم. أما النقطة السلبيّة الأساسية في الأسطوانة فتكمن في مرافقة أوركسترا الحُجرة لمدينة بريمِن (بقيادة فلوريان دونديرِر) لغرييو في الكونشرتو، فقد أتى أداؤها فاتراً ورتيباً.
أمّا إذا أردنا تقويم عمل عازفة بيانو بمستوى هيلين غريمو، فسنتّبع منهجيّة النقاد إجمالاً، ونستند إلى تسجيلات استثنائية قام بها عازفون دخلت أسماؤهم التاريخ. من هذا المنطلق، تصبح مهمة غريمو، في محاولتها تلبية حاجات المستمع الخبير صعبةً لا بل شبه مستحيلة، إذا ما قارنّا مساهمتها بعزف باخ بتسجيلات غلان غولد، موراي بيرايا، أندرياس شِفّ، أنجيلا هِوِيت، روزالين تورَك (بالترتيب حسب الأهمية والتخصص بباخ) وبتسجيلات بعض الذين عزفوا باخ على الكلافسان، مثل غوستاف ليونهارت، تريفور بينوك، بيار هانتاي.
ولأنّ «مهنة» العزف الكلاسيكي الاحترافيّ على البيانو تتطلب تفرّغاً كاملاً وجهوداً كبيرة وتمارين مكثّفة، ولأنّه يندر أن نجد موسيقياً محترفاً يمتلك سمعة عالمية يهتمّ بشيء آخر غير البيانو، يأتي السؤال: كيف تجد هيلين غريمو الوقت للعزف والكتابة و... الذئاب؟! فقد ألّفت العازفة الفرنسيّة حتى الآن ثلاثة أعمالٍ أدبية، هي كتابات عن الموسيقى والذئاب، تستند فيها إلى تجربتها الخاصة. إذ إنّ غريمو تحمل شهادة في الإيثولوجيا (دراسة تصرفات الحيوانات في بيئتها الطبيعية) وتوظّف اختصاصها للاهتمام بالذئاب من خلال مركزٍ خاص أسسته في نيويورك.
تجدر الإشارة إلى أنّ مجلّة «ديابازون» منحت في إصدارها الأخير تقدير «أسطوانة الشهر» لـ«باخ/ غريمو».