بيار أبي صعبصدرت دراسات فنيّة عدّة خلال الأشهر الماضية، لكن أهميّة كتاب زينة معاصري الذي يتجاوز الرصد الفنّي إلى البحث النظري، أنّه يستعيد مرحلة مفصليّة من تاريخنا الراهن، من خلال الملصق. طوال سنتين أو أكثر، انكبّت الفنانة والأستاذة (في قسم التصميم الفني ــــ الجامعة الأميركيّة في بيروت)، على دراسة الملصق السياسي والحزبي بصفته شاهداً على العصر، يستبطن معطيات فكريّة وجماليّة كثيرة. وتلك المعطيات، من شأنها أن تسلّط بدورها الضوء على قضايا وطنيّة وقوميّة واجتماعيّة وسياسيّة، كانت ولا تزال تمثّل محاور النزاع في لبنان والمنطقة.
باختصار مشروع زينة معاصري، وكانت محطته الأولى معرضاً في بيروت (فوروم «أشغال داخليّة»)، ثم بحثاً نظرياً شاملاً صدر قبل أيّام عن دار I.B. Tauris البريطانيّة، هو إعادة قراءة الحرب اللبنانيّة من خلال الملصق السياسي والحزبي الذي «احتلّ» الفضاء العام، وكوّن على امتداد سنوات جزءاً من المشهد اليومي... إلى أن جاء «اتفاق الدوحة» لإزالته، منعاً لـ ... الشقاق الأهلي! العنوان الإنكليزي للكتاب Off the Wall ترجمته الحرفيّة «منزوع عن الجدار»، لكنّنا نقترح الإبقاء على عنوان المعرض الذي ضم في نيسان/ أبريل الماضي، جزءاً من مجموعة زينة، قدّمتها يومذاك تبعاً لمحاور زمنيّة أو ثيميّة: «ملامح النزاع ــــ الملصق السياسي في الحرب الأهليّة (١٩٧٥ ــــ ١٩٩٠)». وهو غالباً العنوان الذي سيُعتمد في الطبعة العربيّة التي تصدر خلال 2009.
إنها ذاكرتنا الجماعيّة إذاً، تغوص فيها معاصري، جامعةً بين الرصد والتأريخ والتحليل. وهنا تكمن أهميّة الكتاب الذي يعدّ مرجعاً لا غنىً عنه في كلّ مكتبة جديرة بهذا الاسم. إنّه ثمرة بحث ميداني طويل، خاضت خلاله الكاتبة غمار الحرب، فحاولت الإحاطة بفصولها وفرز أطرافها وفهم صراعاتها. التقت ممثلي الأحزاب والتنظيمات الفاعلة حينذاك ونقّبت في أرشيفاتهم. وكان أن جمعت قرابة 700 ملصق، صنّفتها ونقلتها رقمياً... وراحت تدرسها. التأريخ هنا متعدد المستويات، سوسيولوجي وثقافي، سياسي وفنّي. فقد التقت معاصري عدداً من مصممي تلك الملصقات أو اقتفت أثرهم، وبعضهم من كبار التشكيليين العرب من حلمي التوني إلى بول غيراغوسيان، مروراً برفيق شرف وسيتا مانوكيان وعمران القيسي وإميل منعم ويوسف عبدلكي... في الكتاب دفتر كامل بالألوان يضم باقة مختارة من تلك الملصقات، ويرسم أحياناً رحلة بعض الرسوم من موقع إلى آخر، من «دار الفتى العربي» إلى حزب الله مثلاً... مروراً بإيران.
يرصد الكتاب تعددية الخطاب السياسي، ومختلف أشكال التمثّل البصري للفكرة ذاتها، ويتيح لعبة المقارنات والمتوازيات بين شتّى الفئات والمواقف السياسية. لكنّه قبل كل شيء مبادرة أولى على طريق إعادة اكتشاف الملصق بشكل عام، ودوره كشاهد على الذاكرة الجماعيّة... ولعلّ ذلك هو الدافع الأول لإدراج كتاب زينة معاصري «ملامح النزاع» على قائمة الهدايا، في نهاية هذا العام...