حسين بن حمزة هل إهداء كتابٍ لا يزال أمراً ممكناً؟ السؤال ليس طرفة أو مزحة. لم يعد الكتاب يخطر في بال أحد كخيار أول في المناسبات، وقد يخسر إذا دخل في منافسة مع أي سلعة أخرى. الكتاب صار «دقة قديمة». فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بديوان شعر... وتجربة تنتمي إلى «قصيدة النثر»؟ محاذير وعوائق كثيرة إذاً تقف، عزيزي القارئ، بينك وبين هديّة من هذا النوع. لكننا نعدك بأن «الأعمال الشعرية» (دار النهضة) لوديع سعادة شيء مختلف. دعنا نخبركَ أولاً أن الأعمال الكاملة لهذا الشاعر كانت ـــ في الأساس ـــ هدية لنا نحن الممسوسين بكتابة الشعر والمدمنين على قراءته. كانت رغيفاً ساخناً خارجاً للتوّ من تنّورٍ ريفي مقارنةً بأكداس من دواوين الـ «باغيت» المتشابهة والمخبوزة آلياً.
هذا كتابٌ منجزٌ بحبر التجربة الشخصية لا بالحبر العادي وحده، أيها القارئ. لقد راهن هذا الشاعر بحياته على طاولة الشعر ولم يستردَّها أبداً. ورّطه الشعر في رحلة طويلة داخل مجلدَّات الحياة التي لا تكفُّ عن الصدور. من شبطين قريته الجبلية «الوادعة» مثل اسمه، بدأت الحكاية. ثم استمرت في بيروت، قبل أن تهيمَ في غربةٍ أوسترالية لا تزال مستمرة منذ عشرين عاماً. ارتطامه بالمدن الكبرى لم يُغيِّر الكثير من عاداته الشعرية. لم يخترع هذا الشاعر قصيدته من اللغة وتهويمات المخيلة، بل جمع مكوناتها من جواره القريب، من بيوت الفلاحين وحقولهم وأفكارهم البسيطة ـ ولكن الثاقبة ـ في الحياة. سمّى مجموعته الأولى ـ التي طبعها بخط يده عام 1973 ـ «ليس للمساء أخوة» وقال فيها: «سأذهبُ إلى الغابة/ أقعدُ مع الحطابين/ وبفأس دهشتهم/ أقطعُ أحلامي وألقيها في النار/ يقول الحطَّابون/ اليابسُ يُقطع». ناضجاً وحكيماً ومتأملاً ومتفلسفاً، هكذا بدأ وديع سعادة رحلته على غير عادة أغلب الشعراء في بداياتهم الفجّة. اهتدى مبكراً إلى طريقة تخصُّه في تحويل طين الكلام العادي إلى أحجارٍ شعرية كريمة. أحجار ـ على شكل استعارات وصورٍ أخاذة ـ رحنا نصادفها ونحن نتجول في دواوينه التي راحت تصدر تباعاً.
إذا كنت ـ أيها القارئ ـ منصرفاً عن قراءة الشعر بسبب ما تسمعه عن غموضه وطلاسمه، فلا تصدّق كل ما يُقال. الشعر الحقيقي لا يستطيع أن يتنفس إلا من هواء التجربة الحقيقية. ووديع سعادة مثال ساطع على براعة مزج الحياة بالكتابة. أصغِ إليه برويّة وحب. انسَ الوزن والقافية وكل القشور الخارجية للشعر، وستجد أن الشاعر يرى بعينيك ويتكلم بلغتكْ. اقرأ ما كتبه عن أهل الريف الذين «زحلوا نحو الماء/ منحدرين من جبالهم ظلالاً ناعمة/ لئلا يوقظوا العشب» والذين «في بالهم/ إذا مرَّ غيمٌ/ ينزل المطر على حقولهم البعيدة» والذين «حين ينظرون إلى بعضهم ترقُّ عيونهم أيضاً / إلى درجة أنهم يظنون أنفسهم زجاجاً / وينكسرون». ما الذي يجعل هذا الكلام يدخل قلبكَ بلا استئذان؟ ما الذي يجعلك تتجاهل إن كان ما تقرأه موزوناً أو لا؟ ما الذي يفعله بك الشعر أيها القارئ؟