دمشق | لم يكتفِ عبد اللطيف عبد الحميد (1954) في فيلمه «العاشق» بشذرات من سيرته الذاتية (خصوصاً القروية) التي كانت تبزغ جزئياً في أفلامه السابقة، بل توغّل أكثر في ترميم هذه السيرة باستعادة عدد الصفعات التي تلقاها من الآخرين، مقتحماً مناطق وجدانية مرهفة، وموسّعاً فتحة العدسة نحو أوجاع أكثر جذرية. وإذا بهذا الشريط ينهض على ثلاثة أقانيم (القرية/ المدينة/ الوطن)، على خلفية الزلزال الذي أصاب المجتمع السوري في السنوات الأربع الماضية.
كان صاحب «ليالي ابن آوى» قد أنجز كتابة السيناريو قبل اندلاع «الانتفاضة السورية» بقليل. لكن خلال التصوير، لم يشأ تجاهل الوقائع المستجدة، فأغلق القوس على هتاف «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد» كآخر استغاثة منه، قبل اكتمال الكارثة. ما ناله «المخرج العاشق» (عبد المنعم عمايري) من صفعات داخل الشريط، تعرّض لها الفيلم نفسه في حكاية واقعية مشابهة، حين هدّد سينمائيون سوريون معارضون بإحراق دار الأوبرا المصرية، في حال أصرت إدارة «مهرجان القاهرة السينمائي» على إدراج الفيلم ضمن عروضه (2011)، وتكرّرت الصفعة في «مهرجان دبي» (الأخبار 27/11/2012 ــــ 30/11/2012). هكذا غاب الفيلم ثلاث سنوات في مستودعات «المؤسسة العامة للسينما»، قبل أن تتيحه أخيراً للجمهور الدمشقي، في عرضٍ خاص، استضافته صالة «سينما ستي».
هذه المرّة، لسنا إزاء كوميديا سوداء صرفة.
تفكيك ثنائية التسلطية السياسية والمجتمعية والشعارات الجوفاء

هناك شجن عمومي يتسلل من تفاصيل الحكاية الأساسية على هيئة كشف حساب شامل لحقبة مليئة بالأوهام والأحلام المجهضة والعشق المغدور، من طريق فحص الشعارات البرّاقة التي ألقت بثقلها على تطلعات جيل، وجد نفسه، في نهاية المطاف، ضحية لهذه الشعارات نفسها. قوة صوت الأب (عبد اللطيف عبد الحميد) الذي كان يطلق شعار «حزب البعث» أمام بيته، ليردّده التلاميذ في المدرسة المجاورة، كل صباح، لم تنقذ الابن «مراد» من تلقي الصفعات، سواء من الأب نفسه، أم من مدير المدرسة، أم من شقيقه الأكبر، وحتى حبيبته. لجأ عبد اللطيف إلى عملية تناوب زمنين في البناء السردي للفيلم عبر توليف المخرج مراد فيلمه الأول الذي تدور وقائعه في الريف عن الفتى الذي ذاق أصناف الأسى على يد الأب الذي كاد يحرمه من الذهاب إلى اللاذقية لتقديم امتحانات الشهادة الإعدادية، بذريعة حاجته إليه للعمل في الأرض، وإحضار الخبز من الفرن. لكنه سيتراجع عن قراره، بعد تعهد شقيقته تعويض غيابه. يتمكّن الفتى من النجاح، رغم مضايقة شقيقه الأكبر له، وتبرمّه منه، إثر مشاركته الغرفة المستأجرة، ثم يعيش أولى مكابداته العاطفية مع ابنة الجيران التي تنتهي بزواجها من شخصٍ آخر. على المقلب الثاني، نتتبع حياة «مراد» في دمشق خلال عمله على مونتاج فيلمه الأول، وتطوّر علاقته مع جارته «ريما» (ديما قندلفت) التي تعيش جحيماً من نوعٍ آخر، فرضه أب متسلّط وقاسٍ، على عكس والد مراد الذي يفيض حناناً وألفة أقلّه في شيخوخته، قبل أن تداهمه نوبة غيبوبة بسبب ارتفاع نسبة السكر في دمه (ربما من أباريق الشاي التي كان يعدّها للرفاق أثناء الاجتماعات الحزبية)، فينقذه صديق مراد في الصبا الذي صار طبيباً، قبل أن يحضر الابن من دمشق، إثر مكالمة عاجلة من شقيقته. عند هذه العتبة يدخل الشريط مشاهد ميلودرامية بدت فائضة، خصوصاً في ما يتعلّق بشخصية ريما التي تتسلل ليلاً، إلى بيت مراد، بعد شجار مع والدها. حين يعود العاشق، يجدها في بيته، فيشعر بحجم الورطة، ويقرر الزواج منها، والهرب إلى قريته، وعقد قرانه عليها هناك، بمساعدة صديقه الطبيب «عمر زكريا» (قيس الشيخ نجيب)، في إشارة مضادة لما حدث من تفكّك طائفي في نسيج المجتمع السوري. في المقابل، لن نجد نسمة هواء منعشة في دمشق، فكل ما يحدث هنا تضيق به الروح. أماكن مغلقة تثقلها الضغينة والعنف والخوف في هجاء صريح ومعلن ومتواتر للمدينة وقيمها المتعسفة. في اللحظات الأولى من الشريط، يتقدّم أحدهم من المخرج في سيارته، وهو في طريقه إلى غرفة المونتاج، ويمطره بالشتائم ثم يبصق عليه وينسحب، ما يفسّره مراد لحبيبته بأن ما حدث هو نوع من النقد السينمائي، علماً أنه لم ينجز بعد فيلمه الأول (!). وحين يظهر في مقابلة تلفزيونية، يذكر القسوة التي كان يبديها مدير المدرسة تجاه التلاميذ. وإذا بالمدير نفسه، الذي صار مسؤولاً أمنياً مرموقاً في العاصمة، يستدعيه إلى الفرع، ويهدّده بقطع لسانه، في حال تجاوز حدوده مجدداً، فيما يتوعده والد حبيبته، بعد هروبها معه، بأنه سيذبحه حالما يجده. لن يتنفّس مراد هواء الطمأنينة، إلا بعد مغادرته حدود دمشق نحو قريته، ليستيقظ هناك على براءة الطبيعة، وألفة العائلة الأولى، وصفاء النفوس، قبل أن يموت الأب مثل قديس، وقد تلاشى صوته القوي تماماً.
فيلم مؤثر، مشغول بمهارة وجرأة، بالإضافة إلى بلاغته البصرية العالية، وكثافته السردية غير المهادنة، لجهة أسئلة الهوية، وثنائية التسلطية السياسية والمجتمعية بقصد تجفيفها من زبد الشعارات الجوفاء التي أوصلتنا إلى حافة الهلاك.