توأما السينما المغايرة يغوصان في النفس البشريّةعثمان تزغارت
تجمع بين وودي آلن وجيمس غراي نقاط متعددة. إذ إنّ كليهما حالةٌ متفرّدة في السينما الأميركية. لا تنتمي أعمال المخرجين إلى سينما المؤلف التي تكسر نمطية المعايير التجارية الطاغية على الإنتاج السينمائي الأميركي فحسب، بل تنخرط أيضاً في تيار السينما المفكّرة ذات الحساسية الأوروبية، وتلقى رواجاً كبيراً خارج المركز الهوليوودي.
رغم هذه الخصوصيّة، لا ينتمي آلن وغراي إنتاجياً إلى «السينما المستقلة»، على غرار بعض الرموز السينمائية مثل فرانسيس فورد كوبولا والأخوين كوين، وغيرهما، بل يستندان في أعمالهما إلى الماكينة الإنتاجية الضخمة للأستوديوهات الهوليوودية الكبيرة («وارنر» مع آلن، و«ميراماكس» مع غراي). ويعود ذلك إلى إدراك شركات الإنتاج لرواج أفلامهما عالمياً ما يعوّض خسارتها في السوق الأميركية.
يجمع بين آلن وغراي أيضاً أنّهما سينمائيان نيويوركيان بامتياز. الأول صوّر 37 فيلماً من أعماله الأربعين في مسقط رأسه مانهاتن، قبل أن ينجز أفلام ثلاثيته الأخيرة في أوروبا («نقطة المباراة» و«سكوب» في لندن ثمّ «فيكي كريستينا برشلونة» في إسبانياأما غراي ـ المقلّ جداً والأكثر انتقائية في خياراته الفنية بين أبناء جيله ـ فصوّر أفلامه الأربعة في مسقط رأسه، بروكلن، فيما يصوّر فيلمه الجديد في باريس، الربيع المقبل.
إضافةً إلى ذلك، تكمن السّمة المشتركة الرئيسة بين آلن وغراي في شغفهما بالغوص في أغوار الذات الإنسانية وتسليط الضوء على صراعاتها.
في فيلميهما الجديدين، «فيكي كريستينا برشلونة» و«عاشقتان»، يتصدّى المخرجان لتيمة «الثالوث العاطفي»، في استعادةٍ لإشكالية نيتشه الشهيرة في كتابه «ميلاد التراجيديا». تتمثّل هذه الإشكاليّة بتمزّق عاطفي يعانيه الرجال. إذ تتنازعهم عاطفتان متناقضتان هما الرغبة الأبولينية (رغبة التوازن) والرغبة الديونيزوسية (ارتماءة الانتشاء). تدفع رغبة التوازن إلى تغليب صوت العقل، واختيار الشريك الذي يجسّد الخير والوفاء والكرم. أما رغبة الانتشاء، فتدفع بالعاشق إلى الارتماء في غياهب المجهول، سعياً وراء حبّ مستحيل يعرف سلفاً أنّه لن يجني منه سوى اللوعة والمرارة.
كعادته، اختار غراي لتجسيد هذه الثنائيّة شخوصاً هامشية وعصابية، منطلقاً من التجاذبات التي تعتري سلوكها وعلاقاتها بعضها ببعض، مطلقاً العنان لتأملاته الفكرية والفلسفية. ويقول غراي إنّه استوحى فكرة الفيلم من تأملات «أستاذه» المفكر الفرنسي الراحل جاك دريدا بشأن ماهيّة الحب. إذ قال دريدا إنّ فكرة الحبّ «وُضعت في قلوب البشر لا لتقودهم إلى الامتلاء والاكتفاء، بل لتذوّقهم لوعة الفقدان والاشتياق. حالما يسيل لعاب العاشق أملاً في تذوّق حلاوة العسل، يمتلئ فمه بمذاق الرماد ومرارته».
في فيلم غراي «عاشقتان»، يحاول البطل ليونارد (جواكين فينكس) الانتحار منذ المشهد الأول للفيلم، لأنّ خطيبته هجرته. لكن الفقدان والشوق الذين يستبدّان به في البداية سرعان ما يفسحان المجال لتمزق أكثر حدّة. فإذا بالعاشق القلق والهشّ يغرق في دوامة عاصفة تتنازعه فيها عاشقتان. تجسّد الأولى ساندرا (فينيسا شو)، رغبة التوازن بامتياز، إذ تنتمي إلى الوسط اليهودي النيويوركي نفسه الذي ينتمي إليه «العاشق»، وتسعى عائلتاهما إلى ترتيب زواجهما من أجل توطيد صلاتهما اجتماعيّاً وتجاريّاً. أمّا الثانية ميشا (غوينيث بالترو، في أحد أجمل أدوارها)، فشخصية عصابية تمتلك طباعاً ناريةً تجذب «العاشق»، رغم أنّه يدرك سلفاً استحالة حبّهما. ينتهي الفيلم نهاية قاتمة، فيستكين «العاشق» إلى رغبة التوازن بعد أن يمتلئ فمه برماد الحبّ المستحيل.
من جهته، ينطلق وودي آلن أيضاً من تيمة «الثالوث العاطفي» في «فيكي كريستينا برشلونة»، ليستعيد تيماته الأثيرة المرتبطة بالقلق الوجودي وتكرار التساؤلات ذاتها بشأن ماهية الحب وديمومته وأسرار الإبداع الفني والأسباب التي تؤدي إلى نضوب إلهامه.
بطله البرشلوني خوان (خافيير بارديم) تشكيلي غيور على فنّه وحياته البوهيميّة. لكنّه، حين يقع في دوامة «مثلث برمودا» العاطفي، ويجد نفسه ممزقاً بين السمراء فيكي (ريبيكا هال) والشقراء كريستينا (سكارليت جوهانسون) ـ وهما سائحتان أميركيتان يستضيفهما في برشلونة ـ يلجأ إلى تغليب صوت العقل. السبب في ذلك هو عودة مطلقته (بينيلوبي كروز) التي تذكّره بأنّ الديمومة تقتل الحب، ما يعيده تدريجاً إلى حياته الأنانية والبوهيمية،كي لا ينعكس نضوب مشاعره العاطفية على إلهامه الفني.
وكما العادة في أعمال آلن، لا تمثّل المدينة مجرد خلفية بل شخصية فاعلة في قصة الفيلم. مثلما كان لنيويورك حضورها في بعض أشهر أفلامه مثل «هاري في كل أحواله»و«مشاهير»، وكما كان للندن تأثيرها المميز في «سكوب» و«نقطة المباراة»، مثّلت برشلونة الإطار الأمثل لمنح قصة فيلمه الجديد صدقيّتها وراهنيتها. لذا، لم يكن من المصادفة أن يرد اسم برشلونة في عنوان الفيلم على قدم المساواة مع بطلتيه فيكي وكريستينا.


صراع الشقراوات والسمراوات على الشاشةوقد أسهمت رائعة ألفريد هتشكوك الشهيرة Vertigo أو«العرق البارد»(1958) في الدفع بتيمة صراع الشقراوات والسمراوات على الشاشة نحو منحى نفسي مرتبط بالمفهوم النيتشي للتمزق العاطفي الذي يعتصر قلوب جميع الرجال، بين الرغبتين الديونيزوسية والأبولينية، حيث تقمّص جيمس ستيوارت شخصية محقّق الشرطة الذي تتنازعه الشقراء اللعوب مادلين إلستير والسمراء الوفية جودي بارتون، وأسند هتشكوك دوري الشقراء والسمراء إلى الممثلة نفسها كيم نوفاك. ولا تكاد تحصى الأفلام التي استعادت هذه التيمة بعد ذلك، وأغلبها أفلام تجارية، ومن بينها بضعة أعمال باتت اليوم من كلاسيكيات الفن السابع وأشهرها «حدث ذلك في عالم الشقراوات» لنورمان توروغ (1963) الذي أدخل لأول مرة على حلبة الصراع المحتدم بين شقراء وسمراء، لاستمالة قلب بطل الفيلم إلفيس بريسلي، متنافسة ثالثة هي فتاة ذات شعر أحمر.
ولا يخلو عقد من الزمن من فيلم سينمائي بارز يستعيد هذه التيمة الإشكالية. ففي 1986، قدّم ديفيد لينش Blue Velvet حيث صوّر بطلاً معذّباً يتنازعه حبّ امرأتين. لكنّ لينش عكس رمزية الكليشيه السينمائي التقليدي، فجعل بطلته الشقراء لورا ديرم مرادفةً لرغبة التوازن، أما السمراء إيزابيلا روسيليني، فقدّمها في صورة فتاة ليل اصطدم حبّها لبطل الفيلم كيلي ماك لاكلان، بسطوة أحد قادة المافيا.
وكان لا بد من انتظار عام 1992، ليعاد الاعتبار إلى صورة الشقراء على الشاشة، من خلال فيلم Basic Instinct من إخراج بول فيرهوفن. فقد صوّر هو الآخر محقّق شرطة يؤدّي دوره مايكل دوغلاس تتنازع عواطفه الشقراء شارون ستون والسمراء جان تريبلهورن. لكن الشخصية الشقراء التي تقمّصتها ستون جاءت مغايرة للشخصيّة النمطيّة عن الشقراء الساذجة والسطحية، فهي مثقفة وذكية ومتآمرة، بحيث عجز الشرطي ـ البطل وصديقته الاختصاصيّة النفسية السمراء عن كشف أسرارها وإثبات تهمها.