بعد «الإعصار»، يعود بفيلم إشكالي يوثّق لمرحلة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث... ويصور بيروت مسرحاً لكلّ أنواع الأعمال الاستخباراتيّة
زياد عبد الله
16 سنة تفصل سمير حبشي عن آخر أفلامه «الإعصار»، ويأتي جديده «دخان بلا نار» بعد أعمال تلفزيونية عدّة، ومن بوابة إنتاج مشترك لشركة «مصر العالمية» وتلفزيون «أيه أر تي»، محمّلاً أيضاً بما يمكن اعتباره توثيقاً لمرحلة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث... يبدأ بها فيلم حبشي مباشرةً، وعبر مشاهد وثائقية من مؤتمر الطائف ومن ثم رفض العماد ميشال عون قراراته، ودخول القوات السورية بيروت الشرقية، لتتوسط الشاشة عبارة مفادها أنّ أحداث هذا الفيلم تجري تحت الوصاية السورية المطلقة على لبنان.
بداية سريعة وخاطفة، تمضي نحو رسالة الفيلم مباشرة، وتُتبع بعد ذلك بموكب السفير الأميركي بمظاهره المسلحة وسياراته السوداء المخيفة، وهي تجتاح شوارع بيروت، في تقديم لمقولة الفيلم الثانية وهي أنّ أحداث الفيلم تجري تحت هيمنة أميركية سورية على لبنان. فها هو موكب السفير الأميركي الذي سيتكرر ظهوره في الفيلم وصولاً إلى إقدامه على قتل شاب مسيحي جنوبي كان متوجهاً من قريته إلى بيروت.
لكن مهلاً ليست هذه قصة الفيلم الرئيسية. كما أنّ الهيمنة السورية الأميركية ليست كل شيء. بل سيمضي الشريط خلف المزيد من الإضاءات السياسية عبر شخصية المخرج المصري (خالد نبوي) الذي يأتي إلى لبنان ليصوّر فيلماً عن القمع في العالم العربي، فيصير هو ضحية هذا القمع المتمثل بأجهزة الاستخبارات. إذ بعدما يشي به حمدي (رودني حداد) أحد ضحايا تعذيب الأجهزة الأمنية والمتعامل معها بعد ذلك، يُعتقل المخرج ويصل الأمر حدّ اتهامه بأنه قائد لخلية من تنظيم القاعدة في بيروت، ومن ثم اعتقاله مستقبلاً في العراق في صور مشابهة لصور القبض على صدام حسين!
تلك هي خيوط الفيلم الرئيسية التي تتعرض لانقطاعات أو تمتد في ملاحقتها المقولة تلو الأخرى، فعشيرة الشاب المسيحي المقتول التي تستعد للثأر تكتشف أن ثأرها في رقبة السفارة الأميركية، ما يضعنا أمام لقطات كثيرة لمراسم العزاء، وتجاور الولادة مع الموت في لقطات جميلة، ورفض زعيم العشيرة اعتذار السفارة الأميركية وإصراره على مجيء السفير بنفسه.
وفي خط مواز، يمضي فيلم المخرج المصري وتتداخل مشاهده مع الواقع المفترض. وعليه فإن ما نراه قد يكون في أحيان كثيرة جارياً في مخيلة المخرج الذي نراه يكتب سيناريو فيلمه. سيناريو يمكن أن يكون فيلم «دخان بلا نار» كاملاً.
ولئلا يغيب عنّا الحب، يظهر المخرج المصري عالقاً بين امرأتين، الأولى حبيبته الحقيقية (ديامان بو عبود)، والثانية حبيبة مفترضة (سيرين عبد النور) يكون مشهده الغرامي معها من نسج مخيلته وفي خدمة السيناريو الذي يكتبه.
فيلم سمير حبشي محتشد بالمقولات والافتراضات. ولعل نظرية المؤامرة ترمي بظلّها الثقيل عليه. لا بل إنّ استباق السرد بالمقولة يظهر في مشاهد كثيرة، بينما يطال الإصرار على التوظيف كل شيء، كأن تصبّ قصة مقتل الشاب في خدمة إضاءة حبشي على العشائرية المتحكمة في لبنان. ومع إغراء الفيلم للمشاهِد بمقاربته سياسياً، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لمَ تبرئة إسرائيل ما دام الفيلم يقدّم بيروت مسرحاً لكل أنواع العمل الاستخباراتي؟ والقصد هنا قصة ذلك الرجل المواظب على حراسة سيارته ليلاً ثم تنفجر فيه قنبلة كان نصبها كميناً لمن يحاول سرقتها... فيطالعنا الخبر الذي تنقله وسائل الإعلام بأن التفجير كان من جانب عملاء لإسرائيل، وتتبع ذلك حملة اعتقالات كبيرة.
الفيلم الذي شهد إقبالاً غير مسبوق في «أيام قرطاج السينمائية» الذي اختُتم أوّل من أمس، تبدو حركيّته عالية بل هوليوودية. ولعل حضور حبشي يبقى طاغياً على ما عداه، فالبطولة له وليست لخالد نبوي الذي يمضي أداؤه على شيء من الحيادية والخط الثابت. كما أن المفاجآت التي يحرص حبشي على اجتراحها تكون دائماً تبعاً لنقلاته المونتاجية... ليخرج في النهاية بشريط هو خلطة متوترة سياسية وفنية يحيط بها الدخان من كلّ الجهات.