الفنانة السوريّة تتأرجح بين طهرانية وأنوثة مشتعلةخليل صويلح
تنطوي أعمال سارة شمة في معرضها الجديد «سارة 1978» الذي اختُتم أخيراً في صالة «آرت هاوس» في دمشق، على سيرة ذاتية ملتبسة، ترتد إلى توثيق طفولتها الأولى، تدرّجاً إلى صورتها الراهنة، في شغب لوني يسعى من دون هوادة إلى تدمير المادة الأصلية التي هي غالباً صورة في ألبوم عائلي. الأرضية الفوتوغرافية التي تنطلق منها أبعاد اللوحة تتعرض لتفتيت منهجي بضربات لونية مباغتة، وخطوط صارمة ترسم المسار النهائي للكتلة.
ليس ما ترسمه هذه التشكيلية السورية الشابة مجرد بورتريهات شخصية، بل تداعيات انفعالية صادمة ومحتدمة تنهض على وحدات سردية متجاورة ومتضادة في آن واحد، في مختبر قلق لا يرسو على ملاذٍ أو تخوم. ليست سارة شمة تعبيرية صريحة، وهي ليست واقعية أيضاً. هناك إقصاء للوصفات الجاهزة، في لوحاتها التي تعبر أكثر من برزخ لتأخذ شكلها النهائي. سوف ننسى بعد لحظات الأصول الفوتوغرافية في إنشاء اللوحة. إذ إنّها ليست أكثر من عتبة للتوغل في ثراء اللون والخطوط والاحتدامات. تتمحور أعمال سارة شمة حول الذات في تحولاتها. وإذا بنا أمام مقترحات سردية مفارقة، في مرايا متعددة، تمزج الأنوثة بالذكورة، والواقع بالحلم، وصولاً إلى تخوم السريالية. لن نستغرب إذاً لوحة «الرجل الحامل»، ما دامت تشتغل على معنى الولادة والخصب واشتهاءات الجسد. وفي لوحة أخرى، يتكوم الرجل على نفسه، كأنه خارج من الرحم للتو، فيما تسقط من الأعلى ملعقة تعكس صورة أنثاهلن نجد في أعمال هذه التشكيلية المتمردة إحالات أو مرجعيات للمحترف السوري أو ما يشبهه، لجهة التقنية وزوايا النظر، كأنها تحوك لوحتها بمغزل خاص يستمد شحنته اللونية من ذاكرتها الشخصية فحسب. إذ إنّها من النادر أن تبتعد عن مراياها الداخلية، لكنّها في هذا المعرض تضيف مفردات وعناصر جديدة، تضفي أبعاداً حميمة على تجربتها ومقترحاتها الجمالية: تقوم باقتطاع تفصيل من اللوحة، والاشتغال عليه كبؤرة مجاورة، على السطح نفسه، ما يمنح العمل حواراً إضافياً في تفاعلات الكتلة واللون. بعدما كان الوجه وحده محور اللوحة، تؤكّد هنا على حركة اليد والأصابع بطبقات لونية داكنة، كما أنّ الوجه يخضع لتحولات زمنية في تناسخات متتالية تخضع بدورها للمحو والتشذيب المستمرين. كأنها لا تجد ما تبتغيه من المناوشة الأولى للفكرة الجنينية للعمل، أو لعلها محاولة للطيران بعيداً عن الأرض الأولى.
هذا الحفر الأركيولوجي في طبقات الوجه، في محاولة إزاحة القناع، يحيل ــــ في نهاية المطاف ــــ على بياض يشي بقلق مستمر، وحيرة بين الطهرانية من جهة، والحسيّة الخالصة من جهة ثانية. ضربات الفرشاة ثخينة ولولبية، تضع الوجه في مهب متاهة وجودية، لن تصل إلى النشوة الحسية المبتغاة. وإذا بها تراود الجسد مرة أخرى من موقع مضاد، ليتكشّف الوجه الأنثوي عن ملامح ذكورية قيد التشكّل، وظلال تحيل على مستوى آخر أو«نيغاتيف» الفكرة الأولية قبل أن تصل إلى تخوم أخرى: نصف وجه أنثوي بالأبيض والأسود يغطيه بروفايل رجل بالألوان... فتختلط الأعضاء في أقصى حالات التوتر، وربما الرغبة، فيما تتشابك خيوط بيضاء من سقف اللوحة بما يشبه لعبة تحريك الدمى. أصابع اليد، في لوحات أخرى، تزيح الوجه جانباً لتحتل السطح في نشوة صوفية آسرة، وحركات دائرية يفرضها شكل الدف الذي تمسك به الأصابع في اهتزازات عالية تترك أثرها وإيقاعها على حركة الوجه بخطوط سوداء متوازية، أقرب ما تكون إلى الوشم الموسيقي الذي يترك ندوباً غائرة في تضاريس الجسد.
أنجزت سارة شمة، في معرض سابق، سلسلة من اللوحات التي تتمحور حول المولوية، كطقس أولاً، ومناخ لوني وبصري تالياً. في معرضها الجديد الذي ضم نحو ثلاثين لوحة، تستكمل نشوتها النغمية تلك، لكن من منطقة تشكيلية أخرى تحيل على ما هو دنيوي صرف. في لوحة مستعارة من مناخات «ألف ليلة وليلة» مثلاً، تستسلم امرأة لشجن ناي طويل يمتد إلى خارج إطار اللوحة، على خلفية دوائر متداخلة تشبه الدفوف. تلك الرغبة المحتدمة في الذهاب أبعد باتجاه ما هو حسّي ومشتهى ومؤجل، يحدد الأحمر علاماتها الفارقة في خطوط عريضة ونزقة تؤطر جزءاً من تضاريس الوجه. إنها رغبة جارفة في مغادرة براءة قديمة إلى أنوثة مشتعلة.
تعترف سارة شمة (1975)، بأنّها لا تجد ما يربطها بتعبيرية المحترف السوري أو التيارات الأخرى. فهذه الفنانة المتفردة تتطلع إلى منجزات الفن العالمي في المقام الأول، من رامبرانت الذي رسم نفسه في لوحات عدة، إلى الفنون المعاصرة التي ألغت المسافات بين فن الإعلان والفوتوغرافيا، وارتجالات الـ «بوب آرت». لهذا السبب ربما، رسمت المغني الأميركي بوب ديلان في خمسين لوحة في حالات مختلفة، قبل أن تجد في صورتها الشخصية حقلاً شاسعاً لتجريب الخطوط القوية والألوان الصارخة. إنّها بلاغة تستدعي أحوال الذات أولاً، وإشباع رغبة دفينة في اختبار لواعج النفس البشرية واضطراباتها وتناقضاتها ونشوتها. المرآة عنصر آخر لاقتناص لحظة خفية ومستترة وغائمة. وإذا بها تتكسر بغتةً إلى شظايا تبعثر الوجه إلى نسخ لا نهائية تضيء عتمة الداخل، وتسبر ما يمور ويضطرب في الأعماق من نزق وطمأنينة وتوق إلى التفتح، فالمرآة ذاتها تصير وردة حمراء مثيرة، بقليل من البنفسجي.
بعد معارض كثيرة في مختلف أنحاء العالم، وجوائز عربية وعالمية، تبدو سارة شمة كأنها عند مفترق طرق، أو على عتبة مخاض جديد، تطوي به أرشيف الطفولة وفترة البراءة والبهجة اللونية، وتقطع حبل السرة مع تلك المرحلة... مرحلتها الجديدة، بهذا المعنى، نتاج عمل دؤوب ومتواصل، ومكابدة شخصية في الرسم والمحو لترسيخ لوحة نرجسية تشبهها أولاً وأخيراً.
www.sarashamma.com

هل تنصاع لمتطلّبات السوق؟منذ تخرجها من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1998 (قسم التصوير الزيتي)، تفرغت سارة شمة للعمل الفني، واكتشفت كما تقول، أن ما تعلمته بين جدران الكلية، مجرد «شخبطة»، فراحت ترسم نفسها، وتصقل تجربتها على نحوٍ محموم في اختبار الألوان والخطوط. وخلال عقد من الزمن، برز اسمها على الساحة الفنية بقوة عبر معارض متتالية، فلفتت إليها أنظار النقاد والجمهور. وحصدت الجائزة الرابعة في مسابقة البورتريه العالمية في الصالة الوطنية للبورتريه في لندن 2004، والجائزة الأولى للرسم في مسابقة الفن العالمية waterhouse للتاريخ الطبيعي في متحف أدوليد في أوستراليا.
ما يخشى على سارة شمة، هو انصياعها لمتطلّبات السوق، نظراً إلى غزارة إنتاجها، وتكرار عوالمها من معرض إلى آخر بتحويرات طفيفة. وإن نلحظ في معرضها الجديد نقلة نوعية وتمرداً صريحاً على منجزها السابق، وخصوصاً في التكنيك، واستخدام ألوان لم نألفها كثيراً في معارضها السابقة.