غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | من سوق الغرب (جبل لبنان)، انطلقت رحلة نخلة أمين حدّاد عام 1924. الطفل الذي ولد لعائلة إنجيليّة متحدّرة من أصول أرثوذكسيّة، تلقى دروسه الابتدائية في «مدرسة سوق الغرب العالية» بين عامي 1934 و1936، قبل أن ينال شهادة السيرتيفيكا في «مدرسة النهضة» التابعة لـ «دير الشير» (الرهبانية الباسيلية الحلبية للروم الكاثوليك). المحطة التالية كانت بيروت. هناك التحق بـ «الإكليريكية الشرقية» التابعة للآباء اليسوعيين لإتمام دروسه التكميلية والثانوية، ولنيل شهادة الباكالوريا القسم الثاني بين 1937 و1943. بعدها درس اللاهوت في «جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين». عام 1949، نال السيامة الكهنوتية في «دير الشير» بوضع يد المطران فيلبس نبعة، متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما. حينها اتخذ اسم غريغوار حداد، تيمناً بالبطريرك غريغوريوس حداد الذي ترأس كنيسة انطاكيا اليونانية الارثوذكسية، من 1906 حتى 1923، والرجل القومي العربي الذي وزّع خيرات الكنيسة على الفقراء المسيحيين والمسلمين على السواء.عين حداد أمين سر المطران فيلبس في «مطرانية بيروت للروم الكاثوليك» (طريق الشام) حتى بدايات الخمسينيات، حين أصبح مرشداً عاماً لحركة «الشابات المسيحيات المستقلات». وبعد ثلاث سنوات، عُيّن نائباً عاماً على ابرشية بيروت للروم الكاثوليك حتى سنة 1965. فترة الستينات كانت زاخرة وحيوية لـ «مطران الفقراء». أخذ نشاطه الاجتماعي ينضج من خلال تأسيس حركات عدة منها حركة «التثقيف الذاتي»، و«الحركة المسكونية للشبيبة» و«النادي الموحّد» (بين الثانويات)، و«الحركة الاجتماعية اللبنانية»، و«واحة الرجاء». ذلك لم يمنع من تعيينه أسقفاً سنة 1965 فقام بمهمته اولاً كأسقف معاون للمطران فيليبس نبعه الذي اسند اليه مسؤولية خدمة «ابرشية بيروت» إبان مرضه. وبعد ثلاث سنوات، توفي المطران فيليبس نبعه، فانتخبه سينودس الروم الكاثوليك مطراناً على أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما سنة 1968 حتى سنة 1975، وتحديداً حتى بداية أزمته مع البطريرك والسينودس، بسبب مقالاته في «مجلة آفاق».
منذ تعيينه مطراناً، أثار حفيظة بعضهم بسبب تواضعه وبساطته وفقره، هو الذي وقّع وثيقة تعهد فيها بممارسة الفقر طيلة حياته (صدرت الوثيقة عن المجمع الفاتيكاني عام 1965) وكان يعرف أشدّ المناطق فقراً في لبنان. خلال توليه الأبرشية، بدأ يطبّق تعاليم معلّمه المسيح، ومبادئ العدالة الاجتماعية، فمكّن العائلات التي كانت تعمل لسنوات طويلة في أراضي الوقف، من استملاكها، وأسس المجلس الرعوي الذي تألف من العلمانيين الرهبان والرهبات والكهنة وممثلين عن المجالس الرعوية، كما أسس لجنة الطقوس الكنسية ولجنة الوعظ واللجنة المدرسية واللجنة الاجتماعية. كذلك، وضع تنظيماً مالياً للأبرشية تشارك في تمويله العائلات بحسب إمكانات كل منها، وصارت الخدمات الدينية من عمادات وجنازات وزيجات مجانية بالكامل... معارك أخرى خاضها، فأثار جدلاً كبيراً بدءاً من مناداته بالعلمنة والزواج المدني والنضال السلمي واللاعنف والوحدة الوطنية والحرية والعدل والمساواة إلى أسلوب حياته ووضع الانسان، كل انسان في صلب اهتماماته ومعاركه، ومجلته «آفاق» التي كان صدور ستة أعداد منها فقط كفيلاً بنشوب أزمة في الكنيسة واتهام المجلة بأنها «تتناقض مع العقيدة الكاثوليكية» (راجع الكادر في مكان آخر من الصفحة). أما قرار عزله عبر نقله من أبرشية بيروت إلى أبرشية أضنا الفخرية، فلم يكن سوى فرصة لتعزيز واستئناف نشاطاته الاجتماعية وخصوصاً الاهتمام باللبنانيين الذي نكبتهم الحرب الأهلية، فيما كان يطلب منه أصعب المهمات، كما حصل عام 1978 حين طلب منه أن يكون مطراناً بديلاً من المطران الياس زغبي في بعلبك لمدة ستة أشهر، ثم أن يكون مطراناً مدبراً بطريركياً لأبرشية صور بعد وفاة مطرانها في 1986. أما في عام 1992، فقد اعتكف في دير للمتوحدين في فاريا، ثم اللقلوق والعاقورة حتى 1997. وبعد سنة، اعتكف في «بطريركية الروم الكاثوليك». ومن «بيت السيّدة» عمل عام 2008 على إطلاق حزب علماني، مع شخصيات فكريّة وسياسيّة مختلفة. أول من أمس، انطفأ عن 91 عاماً بعدما كانت غرفته في السنوات الأخيرة مفتوحة أمام الجميع.

يصلّى على راحة نفسه في الثالثة من بعد ظهر الأحد في «كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك» في وسط بيروت، على أن تفتح أبواب التعازي يومي الاثنين والثلاثاء في «مطرانية بيروت» (طريق الشام).