استسهل العازف اللبناني دمج موسيقى الحضارتين الشرقية والغربية، ولم تخرج حفلته البيروتيّة الأخيرة عن تلك التجربة الاستشراقية البائسة المسماة «جازاً شرقياً»
غيث الأمين
منذ فترة، قدّم عازف الترومبيت اللبناني المقيم في فرنسا إبراهيم معلوف حفلته الأولى «كقائد فرقة موسيقية» على مسرح «ميوزيكهول» مع إيريك لوري (غيتار كهربائي)، بشّار مارسيل خليفة (بيانو كهربائي وإيقاعات شرقية ولاتينية وإسبانية)، برنار فيجي (باص كهربائي)، إيريك غرولو (درامز)، وشارل صيدون (إيقاعات شرقية وغربية). حضر معلوف إلى بيروت مع فرقته «سداسي الشتات» التي أتت هويّتها هجينة مركّبة، تراوح بين التأثيرات الفولكلورية الشرقية التي لم تغادر ارتجالات معلوف، وبين كليشيهات الروك، لكن من بابه التجاري، أي البوب روك. وحصل كل من العازفين الخمسة على تفريدة واحدة فقط طيلة الحفلة، فيما اقتصر دورهم على الإسناد فقط. أطلق عازفنا الشاب العنان لصولويات طويلة ومطّردة تكررت فيها الأفكار الموسيقية تفريدات متشابهة، كأنّها تتناسل من بعضها بعضاً.
أراد معلوف أن يعود بنا إلى أجواء فرق النوبة المنتشرة بكثافة في قرى جبل لبنان، تلك الفرق الموسيقية التي يتجاور فيها العزف والغناء والرقص؛ وحيث للأداء المسرحي والدراماتيكي أهمية تضاهي مكانة العرض الموسيقي. افتتح حفلته بمقطوعة طغى على مقدمتها جوّ من الـ «بروغريسيف روك» والـ «فيوجن» قبل أن يطلق العنان لنفيره في سلسلة تفريدات شرقية مشوبة بشيء من الجاز. ثم حضرت تيمة المعزوفة: لازمة موسيقية يعرفها كل اللبنانيين، فقد ضَمَّنَ عازفنا الشاب اللازمة الموسيقية لأغنية «نزل السرور آه يا جامعنا» (تلحين زياد الرحباني). تضمينه هذا لم يكن عابراً (كما في ارتجالات الجاز) بل اختطف معلوف هذه التيمة الشهيرة وجعلها اللازمة الأساسية لمعزوفته، يتكرر عزفها ويُرتجل على مقاماتها ولحنها الأساسي.
حضرت أرباع الصوت في جميع ارتجالات وتيمات المقطوعات الموسيقية للحفلة، حتى أمكننا أن نطلق على إبراهيم معلوف لقب سفير نوتات أرباع الصوت في بلاد البوب والروك. وأغفل إبراهيم بعض المقامات الشرقية التي تخلو من أرباع الصوت، كالحجاز والنهوند والكورد والعجم. مقامات كهذه قد تكون مكاناً وسطاً لردم الهوّة بين الجاز والشرقي. لقد استسهل مهمة دمج موسيقى الحضارتين الشرقية والغربية فرسم خارطة طريق بين القطبين الآنفين، لا تصلح للقاء إلا على المستوى السطحي الذي لا يخرج عن نمطية تلك التجربة الاستشراقية البائسة المسماة “جازاً شرقياً”.
ويبدو أن معلوف الابن يهوى لعبة التضمين، فقد «اقتبس» لحناً شهيراً من كتاب الجاز الكلاسيكي وهو Softly as in a morning sunrise، مضيفاً حيناً ومستبدلاً أحياناً أصواتاً كاملة وأنصاف الأصوات، بأرباع الصوت المشرقية. هكذا، «شَرَّقَ» لحناً غربياً معروفاً ونسبه لنفسه دون الإشارة إلى أصل اللحن. ثم توقّف في جامايكا للتزوّد ببعض من الأكزوتيكيات الكاريبية، فانتقى لحناً شهيراً لبوب مارلي هو Buffalo Soldier، كلازمة ـ تيمة للحن ومزج المقام الشرقي مع الريغي، فأتت المعزوفة رتيبة: تَجَاوُرٌ مملٌّ للعنصرين الموسيقيين السالفين. كان الأجدى بإبراهيم التمثّل بتجارب كبار موسيقيي الجاز في «تورّطهم» مع هذا الإيقاع الجامايكي المحموم. فمحاولات فرق عريقة مثل «أرت أنسامبل أوف شيكاغو» وعازفي ترومبيت كأنريكو رافا، في مزج إيقاعات الريغي، الداب (Dub)، وSKA مع السوينغ جاز والفري جاز، أتت غاية في الحداثة دون الاستخفاف بأصالة الريغي الجمايكي من جهة، وعراقة الجاز من جهة أخرى. ختم عازفنا الشابّ الأمسية بلحن فولكلوري بدوي، اشتهرت بغنائه سميرة توفيق وهو «عل عين بنيتي و12 بنيّة...». في هذه النسخة «المعلوفية»، حلّت الترومبيت مكان المغنية وعازف المزمار معاً... «سلطن» إبراهيم حتى الثمالة، وعلى وقع ضرب الطبول الشرقية والغربية، شرع يقلّد أصوات الزغاريد عزفاً.
أما الموقف الأيديولوجي من الموسيقى، فواضح: عودة إلى الماضي الفولكلوري من دون تطويره فعلياً، فمزجه مع بعض عناصر الموسيقى الغربية الشعبية لم يساعده على تأسيس خطاب موسيقي جدي يتحدى مرور الزمن. إبراهيم معلوف عازف طارئ على الحداثة الموسيقية، يقيم في كيتش الموسيقى الفولكلورية الاحتفالية، وعلاقته بالراهن الموسيقي سياحية في أحسن أحوالها.