مغامرات الفيل «سليمان» في مجاهل الحضارة البشريّة
«ليس كتاباً جديداً، بل هو الكتاب المنتظر»، تقول بيلار زوجة خوسيه ساراماغو ومترجمته. ما الذي ينتظرنا في كتاب يروي رحلة فيل في قافلة، خلال القرن السادس عشر، بين الهند والنمسا؟ وما الذي يقوله صاحب نوبل للقارئ المعاصر على لسان التاريخ؟

سناء الخوري
منذ عشر سنوات تقريباً، وخوسيه ساراماغو مسحور بقصّة فيلٍ استحوذت على خياله منذ تناول الغداء في مطعم اسمه «الفيل»، خلال زيارته مدينة سالزبورغ في النمسا. عشر سنوات وهو يكتب «رحلة الفيل» التي ستصدر قريباً، ليبدو معها الأديب البرتغالي صاحب نوبل الآداب (1998) حكواتياً أكثر منه روائياً، وذلك وفق ما جاء في رسالة زوجته ومترجمة كتبه إلى الإسبانيّة، الصحافيّة بيلار ديل ريو «إلى أصدقاء ساراماغو» ونُشرت على موقع مؤسّسته على الإنترنت.
ما نعرفه عن هذه «الحكاية» كما يحب ساراماغو تسميتها، أنّ إنجازها ترافق مع رحلة الكاتب الصعبة مع الوعكة الصحيّة التي ضربت رئتيه في السنوات الماضية، واشتدّت أواخر العام الماضي، فجعلته يشك جديّاً في قدرته على إنجازها. أمّا الآن، بعد شفائه الكامل، فيستعدّ صاحب «العمى» لإصدار الكتاب الجديد بلغات عدّة في آن، حتّى إنّه قال إنّ «هذه الحكاية هي ما كنت أتمناها أن تكون عليه. مرضي لم يغيّر شيئاً».
سياق الكتابة يعد عشّاق الأدب بوليمة دسمة، إذا أخذنا بفرضيّة أن قمّة العبقريّة تتجلّى في الإبداعات الأدبيّة المترافقة مع المحن. وعد يعزّزه ما رَشَح عن محتوى الكتاب الذي نُشرت مقتطفات منه على موقع الأديب البرتغالي. فماذا يحكي ساراماغو في «رحلة الفيل»؟ بطل الرواية فيل هندي يدعى «سليمان»، ينطلق في رحلة طويلة ضمن قافلة من الهند إلى فيينا في منتصف القرن السادس عشر، بناءً على «الرغبة العبثيّة لأحد سلاطين ذلك الزمان». وسليمان هذا «ليس محظوظاً البتة» كما جاء في رسالة بيلار. صحيح أنّ الحكاية تبدأ بحدثٍ تاريخيّ حقيقي، لكنّها ليست روايةً تاريخيّة، إذ تتداخل فيها أسماء شخصيّات تاريخيّة معروفة مع أسماء شخصيّات مجهولة من عامّة الشعب، تجول في تلك القافلة من مدينة إلى أخرى، حيث يتبع ساراماغو نمطه المعتاد في إبقاء أسماء معظم الشخصيّات طيّ الكتمان.
نقص التفاصيل التاريخيّة لحقيقة ما حدث في تلك الرحلة أطلق العنان لخيال ساراماغو، فالحكاية ــــ وإن كانت ترتكز على التاريخ من خلال إعادة العديد من الشخصيّات التاريخيّة إلى الحياة ــــ إلا أنّ الشخصيات الأخرى خرجت من خيال الأديب. يحتفظ ساراماغو هنا بالفكاهة السوداء، بحسّ السخرية المبطنة واللاذعة التي اعتادها قراؤه، كما يبقي على نمطه الأسلوبي الفريد حيث يتداخل السرد والحوار، وتختفي علامات الوقف فاسحة المجال أمام إيقاع الجملة.
حكاية الفيل سليمان قصّة ملحميّة، لكنّها قبل كلّ شيء حكاية المسافرين في القافلة والناس الذين يلتقونهم في الدرب ويتشاطرون معه «فرحة إيجاد سقف يؤويهم بعد ليال قضوها في العراء». أما جوّ ساراماغو السائد في روائعه السابقة، فحاضرٌ بكلّ ثقله هنا أيضاً. إذ بإمكاننا أن نتخيّل روعة تناول الأديب لتيمته الأكثر إلحاحاً، وهي التعاطف بين البشر، إضافةً إلى«الدخول في متاهة الذوات الإنسانيّة الخائفة»، ما يجعلنا نستشّف ساراماغو الأديب المسكون بهاجس إنساني وسياسي... وخصوصاً حين تطلب بيلار في رسالتها ألا نرى «الكتابة والقراءة كفعلين بريئين، بل كفعلين يهدفان إلى تحفيز الذكاء على الذهاب أبعد قليلاً من فيينا وفلادوليد ولشبونة، وأبعد من الكائن الذي وجدنا أنفسنا عليه عندما استيقظنا هذا الصباح مع يوم إضافي فوق رؤوسنا».
يمكننا أن نستطرد إذاً أنّ ساراماغو لن يترك في هذا الكتاب بحثه عن معنى أعمق للحضارة الهشّة التي يعيشها الإنسان المعاصر، ما يجعله ينسجم مع مواقفه السياسيّة المعلنة، من انتمائه الشيوعي ونضاله ضمن الحركات المناهضة للعولمة، إلى رفضه القاطع لممارسات «إسرائيل» بحق الشعب الفلسطيني (شبّهها أثناء زيارته لرام الله عام 2002 بـ «الهولوكوست» ما دفع بأصحاب المكتبات الإسرائيليّة إلى مقاطعة كتبه). لكن ما هو الشكل الذي سيأخذه هذا الهمّ في كتاب يصرّ ساراماغو على أنّه حكاية؟
في المقطع القصير من الكتاب المنشور على موقع مؤسسة ساراماغو، نقرأ عن رجل وحيد تائه عن القافلة في ليل حالك، لا يرى فيه حتّى يديه. رجل خائف في لحظة ضياع لا يعرف ماذا يفعل بمصيره. سطور قليلة قد تحاكي خوف كلّ إنسان في ليل هذا العصر. ويبدو أنّ ساراماغو يصرّ في هذه الحكاية على أن يكون هو نفسه، فيستلهم صورة جدّه الفلاح البرتغالي التي لا تفارق مكتبه في جزيرة لانزاروت في جزر الكناري، حيث نفى نفسه اختياريّاً بعد العاصفة التي أثارها كتابه “الإنجيل كما جاء على لسان المسيح” (1991) في البرتغال.
ربّما كان يكتب اليوم حكايته استعادةً لأثر حكايات جدّه على طفولته التي قضاها حافياً ككل أولاد الفلاحين في قرية أزينهاغا الصغيرة حيث ولد في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1922. وقد يكون خياره ضمن استعادته الدائمة لقول أكبر شعراء البرتغال على الإطلاق، فرناندو بيسوا: «نحن قصص تروي قصصاً، بمعنى ما». وقد كان «ريكاردو ريس» ـــ أحد أسماء بيسوا المستعارة ــــ أوّل من اكتشف من خلاله جمال الكلمة، ميكانيكي في التاسعة عشرة، اسمه خوسيه ساراماغو.