حسين بن حمزةواحدة من ميّزات ساراماغو الفريدة والمؤثّرة هي أنه قادر على سرد حكايات غريبة ومشوّقة يصعب تصديقها. أغلب رواياته قائم على فرضيات أولية، أما الباقي فهو محاولات متواصلة لتحويل تلك الفرضيات إلى روايات جيدة. شغله ككاتب يقع في هذه المنطقة الخطرة، إذ إن بناء رواية ما على فرضية يخلق وهماً لدى القارئ بأنه متساوٍ مع الراوي/ المؤلف في التنزُّه داخل الرواية. المؤلف لا يعرف ما سيحدث لاحقاً، وكذلك القارئ. السبب في ذلك أن أسلوب ساراماغو لا يقوم على خطة مسبقة. إنه يترك الرواية تنمو وفق منطقها الخاص. بالنسبة إليه «المبالغة في تحديد الرواية يعني أن نجبرها على الولادة قبل أن تكتمل مراحل تكوّنها في المخيّلة». هذا يعني أن متعة القارئ متأتّية من كونه يرافق المؤلف لحظة بلحظة. يشعر القارئ بأن الرواية تتألف للتّوّ أثناء قراءته لها. سيّان إن كان ذلك وهماً أو حقيقة. المهم أن ساراماغو يورّط القارئ في متاهته السردية لكي ينجوا معاً في النهاية. نتذكر هنا رواية «العمى»، فهي قائمة على فرضية أن يُصاب جميع سكان المدينة التي تجري فيها الأحداث بالعمى. الفرضية غير الواقعية تتكرر في رواية «الوعي». إذ يفترض ساراماغو فكرة إقدام غالبية الناخبين في أحد البلدان على التصويت بورقة بيضاء احتجاجاً على زعمائهم الفاسدين. في أعمال أخرى، تأتي الفرضيات على شكل مصادفات وأقدار، ولكنها تعمل بمنطق الفرضيات نفسه. في «كل الأسماء»، يقع موظف مصلحة السجل المدني في حب امرأة عبر المعلومات المكتوبة في إخراج قيدها، ليكتشف ـــ بعد رحلة بحث مذهلة ـــ أنها ميتة. المصادفة تحكم رواية «قصة حصار لشبونة» أيضاً، إذ تولد قصة حب غريبة في حياة بطلها ريموندو، وينقلب تاريخ لشبونة رأساً على عقب، بسبب كتابته كلمة «لم» أثناء تصحيحه لإحدى المخطوطات. أما في رواية «سنة موت ريكاردو ريّس»، فإن ساراماغو يخوض مغامرة مختلفة، فيمنح البطولة لواحد من الأسماء المختلقة للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، ويقدمه كشخص حقيقي عاش فعلاً. هنا تتحول الفرضية إلى تمجيد شخصي شديد العذوبة لبيسوا الذي يزور بطل الرواية في إحدى الصفحات ويقول له: «إن الجدار الذي يفصل الأحياء بعضَهم عن بعض أقلّ سماكة من ذاك الذي يفصل الأحياء عن الأموات».
من يقرأ أعمال ساراماغو يُدهش من قدرته على تحويل «حدّوتة» تبدو مضحكة وعبثية إلى رواية تُستخدم فيها كل تقنيات السرد وحِيَلَهُ. أما الأمر الأهم، فهو براعة هذا الشيوعي الأبدي في تحميل روايته بأفكاره ومبادئه السياسية من دون أن يحسِّس القارئ بأي افتعال. على أيّ حال، يصعب فصل سيرة ساراماغو ككاتب عن سيرته كمناضل سياسي شرس. بعض النقاد ـــ وساراماغو يوافقهم في ذلك ـــ يعتبرون بأنّ السياسة جزء من ممارسته الروائية. ولهذا، لا نستغرب قوله مرة: «بعد موتي، سيذكرون أني كنتُ كاتباً ونلتُ نوبل، ولكن إذا كان ممكناً أن يضيفوا أني ساهمتُ بشكل ما في تعزيز السلام على هذا الكوكب، فأتمنى أن يُوردوا هذه العبارة قبل خبر جائزة نوبل».