«المسواك» الذي أصدره أخيراً الفرنسي جان إيف لاكروا يتناول حياة الشاعر الفارسي الذي ما زال حتى اليوم، بين الكتّاب، الأكثر إثارةً للجدل: الشرق يحبّه صوفيّاً والغرب كافراً!
زينب مرعي
اختار المترجم الفرنسي جان إيف لاكروا، سيرة عمر الخيّام (1048 ـــــ 1131) موضوعاً لكتابه Le cure-dent أو «المسواك» (Allia ـــــ باريس). وليس غريباً أن يهتم لاكروا أو غيره من الغربيين بهذا العالم والشاعر الفارسي الذي ولد في نيسابور وعاش في القرن الحادي عشر. إذ إنّ الخيّام يُعتبر من أشهر الشعراء الفرس في الغرب والأحبّ إليهم، ولو أنّ غوته فضّل عليه الشيرازي.
لا يمكن أن تؤلّف سيرة الخيّام كتاباً ضخماً، نظراً إلى ندرة المعلومات عنه، ما يجعله يمثّل فعلاً سحليّة تاريخيّة، يلوّنها كلّ حسب مزاجه وتأويله الخاص لرباعياته الشهيرة. فالجدل الذي يطال سيرة حياته وشعره، بدأ مع موته، ولا يزال قائماً حتى يومنا هذا. يعرض لاكروا في كتابه ما يعتقد أنّها سيرة الخيّام الأقرب إلى المنطق. وقد تكون قلّة المعلومات المتوافرة عن الخيّام هي أحد أسباب اختيار لاكروا عرض هذه السيرة بطريقة سرديّة روائيّة أكثر منها علميّة.
لا يختلف اثنان على أهميّة ما قدّمه الخيّام في مضمار علم الفلك والجبر. أنجز كتبه العلميّة بالعربية، لغة العلم وقتها، لكنه ما لبث أن اعتزل «النشاط العلمي»، بعدما وصل إلى قناعة بأنّ العلوم لا تقدّم شيئاً للروح الإنسانيّة، فاتّجه نحو الفلسفة والشعر. والخلاف هو على هذا الجزء من حياة الخيّام. فمنهم من يرى أنّه كان ثائراً على التعاليم الدينيّة، ينشد في شعره حبّ الحياة والخمرة والمتعة الحسّية، كما أنّ إيمانه بالحتميّة جعله يدعو الناس إلى الاستمتاع بالملذّات. هذه الدعوات كانت خلف نشوء سمعته كملحد وسبباً لإحراق كتبه العلميّة، بما أنّ شعره لم يكن مكتوباً. والمفارقة أنّ البعض الآخر قرأ الرباعيّات ذاتها ورأى أنّ كاتبها شاعر صوفي يقصد بـ«الخمرة» تلك الروحيّة، ورباعياته هي طريقة للتوحّد مع الله. ومنهم من يرى أنّه لم يكن شاعراً أصلاً، كالمستشرق الروسي زوكوفسكي، والرباعيات التي ظهرت بعد موته بثلاثة قرون ونصف، نُسِبت إليه خطأً.
ولعلّ جزءاً أساسياً من هذا الجدل سببه شخصيّة الخيّام. فقد كان صاحب طباع حادة وشرسة أبعدت عنه الأصدقاء، وكان يقدّس خلوته، فلم يعرفه أحد عن كثب. لكنّ لاكروا يورد أنّه خلف قساوة الخيام، كان هناك جانب خجول احتفظ به للنساء. وكان بعد تناوله الخمرة قادراً على نيل استحسانهنّ.
من يصنّف الخيّام شاعراً صوفياً، يرى أنّ شخصيّته «القاسية» هي شخصيّة «عالم جليل»، لم يكن ليقضي وقته في شرب الخمر، ويرى في أدائه فريضة الحج دليلاً على إيمانه. بينما يرى آخرون، بينهم لاكروا، أنّ ذهاب الخيّام إلى مكّة كان فقط كي لا يفقد حماية السلطان، وأنّه نجح في خداع الصوفيين وإيهامهم بأنّ رباعيّاته شعر صوفيّ، وخصوصاً أنّ الغزالي الذي عاصره كان من ألدّ أعدائه. ولو أنّهم تمعّنوا في شعره، لرأوا أنّه كان ينقل فيه صور روّاد «الحانات».
ورغم هذه الاختلافات وكون كلّ طرف يشدّ حبل الخيّام إلى ناحيته، إلّا أنّ الكلّ يجمع على أنّه صلّى قبل أن يجدوه ميتاً في منزله وعلى طاولته «كتاب الشفاء» لابن سينا، وكان قد وضع مسواكاً من ذهب (من هنا عنوان الكتاب) عند الفصل الذي كان يشغله طيلة حياته، وهو «في تقابل الواحد والكثير»، ليترك الجدل في إيمانه، وبالتالي في معنى رباعيّاته، مفتوحاً.
ويظهر تأثير الخيّام لدى الغربيين أكثر منه لدى العرب، لكونه يجمع بين «روح الشرق وماديّة الغرب». ويختار الغرب إجمالاً صورة الخيّام الثائر على التعاليم الدينيّة أو حتى الملحد، بينما يميل الشرق إلى التصديق بأنّه كان متصوّفاً.
ويجد الغرب الكثير من أوجه الشبه بين الخيّام وبعض من أدبائه وفلاسفته. فيشبّهه بـ«فولتير الشرق»، إذ يتشارك الاثنان أسلوب السخريّة الحاد والتعبير عن آلام الإنسانيّة. كما لديه بعض من تشاؤم بايرون وسوينبرن، وهو يشبه شوبنهاور في الخلاصة التي توصّل إليها: «البعض يؤمن بشيء ما، والبعض الآخر يرفض الشيء، لكنّ السرّ الكبير لن يفضي بنفسه لأيّ كان».