فنانون ومهندسون من العالم جاؤوا يعيدون التفكير في العاصمة اللبنانية، بين حفاظ على ذاكرة المكان وإفادة من المساحات العامة
سناء الخوري
المساحة العامّة في المدينة قضيّة منسيّة تماماً كالأبنية المهجورة التي لم يطلها الإعمار. من أجل إعادة هذه القضيّة إلى مدار البحث، نظّمت «جمعيّة 98 أسبوع» ورشة عمل Beirut every other day لأنّنا «كبرنا في وقت كانت فيه بيروت قيد الإعمار. ونحن كجيل شابّ عايش تلك المرحلة لم يكن لنا أي دور في هذه الورشة الإعماريّة». تلك هي خلفيّة المشروع كما تشرحها مروى أرسانيوس، مؤسِّسة الجمعيّة مع قريبتها ميران أرسانيوس، أي إخراج جيل الشباب من «الهامش الإعماري» إلى محاولة التأثير ولو بالسؤال فقط.
درست مؤسِّستا الجمعيّة تصميم الغرافيك والفنون الجميلة في لندن، لكنّهما عادتا إلى بيروت للنّهوض بمشروع «98 أسبوع». Beirut every other day كانت باكورة الجمعية، جمعت بين الهندسة والفنّ المعاصر ضمن تيمة التجريب على المساحة العامّة. هكذا، دعت الجمعيّة فنّانين من حول العالم إلى بيروت ليقضوا بضعة أيّام ويجولوا على بعض الأماكن بحثاً عن أساليب جديدة لفهم المساحة المدينيّة، أو كما تقول مروى «لتفكير المدينة».
من محطّة القطار القديمة إلى سوق الروشة مروراً بـ«سينما سيتي» القديمة الرابضة بكلّ دمارها في وسط المدينة المعمّر وصولاً إلى «السان جورج» وحرج بيروت، كلّها محطّات توقّف عندها المشاركون. وفي الجامعة الأميركيّة في بيروت، عُقدت جلسات نقاش عرضت خلالها لارا ألمارسيغي (إسبانيا) تجربتها في ترميم واجهة أحد المعارض الذي كان على طريق الهدم. ترميمٌ عبثيّ إذ اختفى كلّ الشغل عن الواجهة بعد الهدم. تجربة ألمارسيغي أشعلت النقاش بينها وبين المهندسين المشاركين لأنّ هؤلاء يبحثون عمّا هو قابل للاستعمال، في وقت يبتعد فيه الفنّان عموماً عن البعد المنفعي للعمل الفني.
من جهتها، عرضت سيسليا أندرسون (السويد) أبحاثها عن كيفيّة تنظيم حدث في المدينة، مرتكزةً على مثال ليفربول، وهي مدينة صناعيّة فيها الكثير من الأبنية المهجورة. اللافت في التجربتين هو البحث عن ذاكرة الأبنية، ومحاولة الإفادة من المساحات العامّة بطريقة فنيّة رغم تحوّلها إلى عالة على الهندسة.
التعاطف مع الأبنية المهجورة انسحب على الجولة التي قام بها المشاركون على الأماكن المهدومة في المدينة، وكان الهاجس هو البحث عن تاريخ كلّ بناية أو موقع. سوق الروشة الجديدة أو سكّة الحديد. ما تاريخها؟ كيف وصلت إلى ما هي عليه اليوم؟ ماذا كان يمكن أن تكون؟
هذه الأسئلة حوّلها الفنّانون في العرض النهائي إلى كلّ أنواع الفنّ من تجهيز وبرفورمانس وتصوير ورسم وهندسة. سجّل شربل الهبر أصواتاً من المدينة، ودوّن كريستوف قطريب ملاحظاته على شكل فيديو وصور فوتوغرافية وشريط صوتي، بعد قضائه بضعة أيّام في منزلٍ مهجور. أما إدواردو بالنشا (إسبانيا) فأحضر أسطوانات من سوق الروشة الجديد، للفت الانتباه إلى مسألة الاقتصاد الهامشي الذي ينشأ في المساحات العامّة.
في المقابل، سار جورجيو أندريوتا (إيطاليا) على خطّ القطار القديم من بيروت إلى طرابلس، بينما صنعت سيتاري شهبازي (إيران) كولاج ديجيتال جمع أماكن متنوّعة من المدينة، كما بحث سيسكا وفرانسيسكا بيرفوس (ألمانيا) عن النيون المطفأ في بيروت. الفنّان المصري طارق زكي (مصر) صبّ أساسات من الباطون لبناية متخيّلة، وصوّر حاتم إمام شبّاك بناية مهجورة.
«لا يهدف الفنّ إلى رؤية الأشياء بطريقة أجمل بل يجب أن يفكّر كي يفهم». هذا ما تؤكّده مروى أرسانيوس. ولهذا، تختار الجمعيّة كلّ سنتين تيمة معيّنة تحاول البحث فيها من خلال ورش العمل. ما زالت الجمعيّة في أوّل الطريق، وأهدافها غير واضحة المعالم، لكنّ «بيروت كلّ يوم آخر» كانت طريقة المنظّمين للقول إنّ «الفنّ هو المنفذ الوحيد حتّى نتخيّل ونفكّر ونتمنّى مدينتنا كما نريدها أن تكون».