أحمد ثامر جهادالأحاسيس والذكريات والمخاوف والأمنيات غير المتحققة هي الثيمات الكبرى التي يُشغل بها العراقي لؤي حمزة، فيصنع منها عالمه القصصي في «إغماض العينين» (دار أزمنة ــــ عمان). نحن هنا أمام عالم مرير وموجع، رمادي كأنّنا نعرفه قبلاً، ترتجف فيه الأصابع الباردة. وبقسوته، تتفسّخ الجثث المرمية ويتقشّر على تخومه طلاء الجدران. الأصوات تنادي هي الأخرى ولا أحد يسمع، وغرف البيت فارغة موحشة. وفي ألبوم صور العائلة، يكتشف الكائن الصامت وحدته. إنّها الحكايات الأليمة التي تروي مصائر أبطالها بلغة مقتصدة موسومة بالموت والأمل الخاطف.
وعلى رغم كشفها الصريح أحياناً، تراهن هذه النصوص على بلاغة إشاراتها ورموزها بشكل يدفع متلقّيها إلى التفكير في الأجزاء الغائبة تحت دفق سردها الزاخر بتفاصيل حياتية مرسومة بعناية.
هل يُعتبر التاريخ المدوّن في أولى صفحات الكتاب الذي يحصر قصص «إغماض العينين» بين عامي 2003 و2007 مؤشراً استهلالياً كافياً لتهيئة القارئ وجدانياً للدخول في بانوراما هذه النصوص بما تحمله من براهين عن الألم العراقي المشفوع بالإخفاق واليأس؟ بين هذين التاريخين، فُتحت بوابة الأحلام العراقية لأمدٍ قصير، قبل أن يجهز عليها ماراتون العنف حلماً تلو الآخر. يمكننا القول إنّ قصص «إغماض العينين» اجتهدت لتكتب فصلاً من فصول الانكسار العراقي يعتمد انفعالاً فنيّاً مع الزمن وتطابقاً حسياً مع الفجيعة.
شخصيّات هذه القصص لا تملك خياراً وجودياً في مواصلة حياتها أو الاتصال بالآخرين، وهي تستسلم لمجرى جسامة الأحداث وغرابتها وإلى حقيقة أنّها كائنات وحيدة ومعزولة بشكل مخيف عما حولها. ولنتذكر هنا أنّ الاتصال في أولى قصص المجموعة بدلالته الإيحائية يصبح نافذة مرعبة لتلقّي أخبار الموت متمثّلاً بحادثة مقتل الجار الذي يسلمنا إلى فراغ موحش. هل بوسعنا أن نكون أكثر اطمئناناً في حياة مريضة فقدت شروطها الإنسانية لمجرد استعادة صور المكان الحميم الذي ألفناه والأشياء العزيزة التي خبرتها طفولتنا؟
سيبدو من المحزن أنّ الموت المخاتل ما زال قادراً على الاستئثار بكل البطولات المخزية في الحياة كما في الأدب. وهو يسلب في هذه القصص حيوات أناسها البسطاء والمجهولين، ويضع القاتل والضحية وجهاً لوجه في مشهد واحد لا مفر فيه من «إغماض العينين» عما يجري. موت غامض يحتفي باستسلامنا، ويترك القارئ في حيرة الأسئلة التي لا تنفك تتوالد. هل بات «إغماض العينين» ذريعتنا الأخيرة لدرء مخاطر شتى تصنع حياتنا الراهنة؟
مَن يتذكر جموع الموتى الذين أخذهم القطار إلى مدن كئيبة في حروب القرن الماضي، وهم يطلّون من نوافذ «على دراجة في الليل» (1997) مجموعة الكاتب الأولى؟ أليسوا هم أنفسهم الذين نثرتهم السكاكين الباردة على الطرق المؤدية إلى بغداد وسواها؟
إنّ النصوص التي تعيد بمهارتها رواية الواقع لتصنع منه واقعاً معدلاً أشد تأثيراً وأقلّ غموضاً، ليست في حقيقتها صورة للواقع الذي نعرفه حتى، وإن حافظت على أكثر مشاغلنا وهمومنا أهميةً وفرادةً. ذلك أنّها ببساطة تستطيع إثارة معنى آخر فينا بما تنشده من عالم أفضل يحتكم إلى رؤيتها الإنسانية ليس إلا.