في «ليل مشغول بالفتنة» (الدار العربية للعلوم ـــ ناشرون)، تخاطب الشاعرة الكويتية المرأة وتحاسبها وتتعاطف معها أيضاً. لكن حالما تظهر شخصيّة الرجل، تعود الأنثى إلى دورها الشهرزادي
نوال العلي
تبدأ سعدية مفرّح قصيدتها بلغة طلقة، كأنّها حيوان بري خرج من مكمنه. هي المتكلّم وهي المخاطب في صيغة القصيدة الطويلة المعنونة «ليل مشغول بالفتنة» (الدار العربية للعلوم ـ ناشرون). أو لنقل إنّ المرأة هي من تخاطبه وتحاسبه وتتعاطف معه كذلك. تستهلّ مفرّح نصّها بكلمة «تجيئين» التي تحيل على التفكير في المكان الغائب الذي تأتي المرأة منه. ويظهر من خلال متابعة اللغة أنّ فعل المجيء نفسه فعل هبوط. فهي تكون «بلورة اصطفاها النور» ثم تصير البلورة المضيئة «حصاة معتمة»، ويغدو منبع الضوء «طريق الرمل» الهابط من «جبال هرمة».
وتتحقّق مفردات القصيدة في الخارج الفسيح أولاً، فـ«المرأة خيمة في أقصى حدود الريح»، أو «غيمة مثقلة بدموع لا تسقط إلا في حضن جبل شاهق»، أو لعلها «مبتدأ الريح ومنتهاه». من هذه العبارات، نلاحظ إسقاط الشاعرة لنعت يتعب هذا الكيان ويجعل من وجوده وحركته أمراً مؤلماً ومربكاً. فلا يمكن المرأة أن تكون خيمة أو غيمة فقط، لا بد مما يعيق حراكها. حتى حين تشبهها بالريح، تضع الشاعرة حداً لحركة الريح بوجود نهاية لها أيضاً.
ثم تنتقل الشاعرة بالمرأة من الخارج لتطويها كسجادة شيئاً فشيئاً إلى الداخل، كل ذلك يحدث بعد أولى محاولات الانسلال من العالم التقليدي للمرأة والارتطام الأول بالمعرفة، هناك «اجتهاد مستلّ من مقدمات الكتب وفهارسها» يقود إلى الخروج والانتفاض المتمثل بـ «تنسلين من ضلوع أمك الغضبى» و«لتقصي ضفائرك الطويلة».
اللافت أنّ الفعل في هذا المقطع من القصيدة هو فعل الحرية لكنّ اللغة لغة انطواء. لنر كيف أنّ الشاعرة تقوم بهذه الثورة الشخصية لكن «بعينين منطفئتين». لتذكّرنا هنا بمقولة جوليا كريستيفا في كتابها «شعرية محطمة» من أنّ المرأة في كتابتها واقعة في شرك الحقائق الذكورية السائدة بوصفها حاملة المعنى.
تسعى المرأة في قصيدة مفرّح لتكون ناجزة، اكتمال يتحقق في دوائر مغلقة وهي دوائر «الغضب» و«المعنى» و«الأسرار». ثلاثة مفردات تظهر مع ظهور المعرفة والرجل والتمرّد. وهنا تنتقل القصيدة إلى مستوى ثانٍ ساذج من التباكي النسائي وتقع في كليشيهات مثل «تنظرين... للمشهد المكتمل/ بالمرأة ذات البشرة البيضاء/ وثوب العرس الأبيض/ والورود اليانعة في ليلة السحر الأكثر غموضاً». فحالما تظهر شخصيّة البطل الرجل طبعاً تؤدّي المرأة دوراً شهرزادياً في طقس مكتنز بإيحاءات عاطفية وجنسية خافتة «تصنعين مزاجه الأحلى في سهرتكما المنفردة/ تغزلين خيوط ثيابه/ وتغسلين شعر رأسه/ تضمخينه بدهن العود/ وترشينه بماء الورد... تقطرين الحكايات الصغيرة». وفجأة ينقلب التمرد في اللغة وفي الفعل أيضاً إلى حالة من الوله والانكفاء من الخارج إلى الداخل. من البراري والجبال والغيوم إلى الدوائر الموصدة والأسرار وفكرة الرجل الأوحد، بل النكوص من منطق العارف إلى الجاهل.
مفرّح التي تتحدث عن امرأة تعرف من أين جاءت وتصف انسيابها الأول وتعالقها مع المعرفة، تصبح عمياء والرجل «يصير دليلك ودلالتك في متاهات القوافل العابرة للتاريخ/دون أن تدركي تماماً/ من أين تبدأ قافلة النساء/ رحلتها نحو أرض الأنوثة/ولا من أين تبدأ قافلة الرجال/ رحلتها نحو أرض الذكورة».
ولننظر إلى بعض الأفعال المستخدمة في القصيدة، المرأة تحاول وتصلّي وتتسلّق وتموت. وحين تغني يكون الصوت مشروخاً والغناء استجداءً. بينما الرجل في القصيدة يلهو ويشعل ويتكلّم ويتلو. بمعنى أنّ المرأة في المتضمّن الشعري الذي تكتبه تكون موضوعاً ومادة إن فعل يفعل باستحياء، بينما يكون الرجل ذاتاً تتسم بالفعل المؤثر والمتحرر.
تختتم قصيدة الشاعرة التي أصدرت ستة دواوين أولها «آخر الحالمين كان» (1991) بفعل بندولي عبثي «تروحين وتجيئين تروحين وتجيئين» ثم «تموتين/ لعلك تموتين/ مدججة بقلب حي» والموت بهذا المعنى حدث مرتكب يومياً.
لهذه القصيدة الطويلة شاعريتها بلا شك، لكنّ كثيراً من التحرير الشعري كان يلزم أيضاً، وبإلقاء نظرة ليست أخيرة قبل دفع الديوان إلى المطبعة لأمكن تفادي استخدام النعوت الجاهزة والأفكار المكرورة. ثمة تحطيم مستمر للحركة والمساحة التي يمكن الحركة أصلاً أن تتحقق فيها، وهذا الأمر ينسحب على شعرية النص، حيث نجدها شعرية تخفق في بلوغ رعشتها. وربما ينسحب هذا على كثير من الشعر الذي تكتبه المرأة.