أيقونات للزمن الحاضر أو الوجه الآخر للاستشراقبيار أبي صعب
أثار فيلم جوسلين صعب الأخير «دنيا» (٢٠٠٥)، نقاشات حادة في القاهرة (وخارجها) كما هو معروف. ومن الاتهامات التي وجّهت إلى السينمائيّة اللبنانيّة، النظرة «الاستشراقيّة» التي تسلّطها إلى الواقع المصري، وعدم نجاحها في أن تتناول، بشكل «عضويّ»، إشكاليّات المرأة والدين والجنس والتصوّف والحريّة... هل تتعاطى جوسلين حقّاً مع الواقع من خارجه؟ الأكيد أنّها حملت من تلك التجربة جراحاً كثيرة، وشيئاً من المرارة، وبعض الأسئلة التي ما زالت تشغلها إلى الآن. ولعلّها، حين استبدلت فجأة آلة التصوير الفوتوغرافيّة بالكاميرا، كانت تبحث عن الإجابات عينها إنما بطريقة مداورة. ربّما كان الفن الفوتوغرافي، لأسباب عمليّة وجماليّة شّى، يترك وقتاً أكبر للمساءلة، والتعاطي مع الموضوع. سيكون «الاستشراق» إذاً هو الهاجس الذي يرافق رحلتها الجديدة بين عربات الباعة المتجوّلين، والمحلات الضيّقة العفنة المكسوّة بالغبار، في الأسواق الشعبيّة القاهريّة (لاحقاً في أسواق ومدن أخرى، بينها «البرغوت»)، بحثاً عن علاقة الشرق والغرب، وتجليّاته الملموسة في المخيّلة الشعبيّة. والنتيجة مجموعة فوتوغرافيّة كبيرة، تجمع بين الشرائط المصوّرة والرسم والتصوير والستوري بورد السينمائي، وتتأرجع بين الـ«نيو بوب آرت» والتجريد (الصور كلّها مسحوبة بتقنيّة Digital Laser C-print ــــ ٧٥ x ١٠٠ سنتم). المجموعة التي تعرض حتى مساء اليوم في «بلانيت ديسكوفيري» تحت عنوان «عقل ـــــ أيقونات ـــــ أحاسيس»، وتستمر في غاليري «أجيال» حتى أواخر الشهر، تنقسم إلى مشروعين: أوّلهما «حكايات وأساطير»، يدور حول المسرحة والتشخيص، والثاني «عمارات ليّنة» ينحو إلى الروحانيّة والتقشّف والتجريدلنبدأ من «عمارات ليّنة»، فيها صوّرت صاحبة «كان ما كان بيروت» الأقمشة على أنواعها، باحثّة عن تواشج الألوان والأشكال والحركة. مادتها البصريّة أقمشة وخيوط، خيم وبراقع، حجب وشاشات شفيفة، يعيد صياغتها الضوء، ضمن مساحة الكادر الفوتوغرافي/ التشكيلي. هناك استعادة لجسد الصحراء، للجسد الأنثوي الحاضر في غيابه، بحسيّة عالية غير بعيدة من الرسم، تحيل مراراً إلى أعمال بيار سولاج... خيالات وأضواء في حالة تآخي مع الصمت، أرضيّة التأمّل بامتياز. لعلّ هذه الأعمال (مسالك العشاق، روحان حللنا بدنا، موشحات، الغرام بعض الظهر، نشوة من ذهب، البرهان بالعسل...)، هي الأقوى والأكثر شاعريّة وحسيّة ونضجاً في المعرض، ولو أنها لا تصدم المتلقّي أي إنها أقل إثارة للفضيحة! فالتصويريّة، بـ«حدّوتتها» المباشرة، المشرّعة على الحدثي والسجالي، هي الأسهل وصولاً إلى الجمهور، هذه المرّة أيضاً!
في القسم الآخر من معرض جوسلين صعب، تسائل الفنّانة الاستشراق، ووجهه الآخر (الاستغراب؟). تقتفي أثرهما ـــــ ثم تعيد تركيبهما في مختبرها الشخصي الحميم ـــــ من خلال أكسسوارات ومواد، إشارات ورموز، أيقونات وصور، دمى وشخوص وأدوات مختلفة، آتية من القمامة أحياناً، تتكوّن من الكرتون والجبس والقصدير والخشب... والبلاستيك. خصوصاً البلاستيك: وحده يختزل عصراً من العلاقات الإشكاليّة بين عالمين وزمنين. صوّرتها حيث (وكما) وجدتها حيناً، واستعارتها أو اشترتها أحياناً، لتنقلها إلى استوديوهات مرتجلة أو ديكورات طبيعيّة: في الثلج، على الشاطئ، في عتمة بيتها، فوق البلاط القديم لمنزل الأصدقاء... هنا مزجت بين العناصر، و«أخرجت» مشاهد ووضعيّات مختلفة. هكذا بين مقاربة «تسجيليّة» (عفويّة) وأخرى «روائيّة» (تتدخّل فيها لإعادة تركيب الواقع)، اكتشفت سكّتها الجديدة: من الآن فصاعداً ستصوّر على طريقتها ذلك العالم الموازي (المجازي)، عالم الأشياء والصور والإشارات، ضمن رحلة طويلة، لاهية وجذلى وحسيّة واستفزازيّة، في المخيّلة الشعبيّة واللاوعي الجماعي لهذه المنطقة من العالم.
يستلهم المشروع الأوّل أيقونات أساسيّة في وعينا ووجداننا الجماعي، دينيّة أو دنيويّة (من عبد الناصر إلى مارلين مونرو وفاتن حمامة، من الدمية باربي إلى الشيخ العربي، مروراً بعيسى الناصري والسيدة العذراء، حسن نصر الله ونابليون، صدام حسين وجورج بوش، صوت العرب وصوت أميركا... وربّما أيضاً علاء الدين والفانوس السحري، وعلي بابا والأربعون حرامي). ما تقوم به جوسلين هو، بتعبيرها، «تحوير» نظرتنا المعهودة إلى أيقونات معاصرة تختزن نظرة إلى الذات والآخر. في اشتغالها على حكايات وأساطير طالعة من الذاكرة، أرادت أن تسبر أغوار ذلك الوعي الجماعي. أن تكشفه، واضعة الجمهور أمام مفارقات تجمع الطرافة والخفّة، والجرأة على التلاعب بالرموز عبر إدراجها في سياقات مغايرة للسائد، أو غير متوقّعة. هذا طبعاً ما جعل القيّمين على «بلانيت ديسكوفري» في بيروت/ سوليدير يصابون بالذعر، ويستبعدون تسعة من أعمالها بذريعة عدم الرغبة في «تناول السياسة والدين». عجباً: ماذا يبقى للفنّ إذاً؟
زوس، إله الآلهة لدى الإغريق وقد خطف أوروبا أخت قدموس من على الشواطئ الفينيقيّة لتخلع اسمها على القارة العجوز، بات في رؤيا جوسلين صعب شيخاً عربيّاً يعيد إلينا أوروبا على شكل دمية باربي. تنطلق الفنّانة من قراءة إدوارد سعيد للاستشراق، تلك «الصورة المشوّهة التي رسمها الغرب للشرق ـــــ أرض اللاعقلانية والقبلية وهزّ البطن وعلي بابا وعلاء الدين ـــــ كي يقدمه لنفسه، ويحدّده، ويسيطر عليه (...)». ومثل المفكّر الفلسطيني الراحل، لا تبرّئ الشرق من تورّطه في «النظرة المشوّهة إلى ذاته، من خلال الغرب المسحور به والذي يرفضه اليوم». من هنا هذه الثنائيّة التي تطبع صورها، وتصل أحياناً إلى حدود الاختزال. الغرب عندها أنثى مغرية وسكسي تختصرها باربي، والشرق هو الذكر: فارس أو رجل تقليدي محافظ بالكوفيّة والعقال، تشطّ ريلته على «الغرب»، الذي يُسقط عليه كل تهويماته وتخيلاته.
وتمضي جوسلين في ابتكاراتها الهاذية، بخفّة وعفويّة وسذاجة (ظاهريّة على الأقل): على إحدى البسطات صوّرت قوالب زجاجيّة داخل كلّ منها صورة حسن نصر الله وإلى جانبها المصلوب، وخلفها بعض الدمى (حقل التجارب الإسرائيلي ــــ الأميركي). لفّت بعض الدمى بأوراق نقديّة عراقيّة من العهد السابق ـــــ كأنّها أزياء كوريج ـــــ عليها وجه صدّام (بغداد فرانش كانكان). صوّرت المسيح العربي، نابليون الإسلام، كوكاكولا/ مكة كولا، مارلين مونرو وأمامها شيخ عربي: تقول إنها تذكّرها بآخر لقاء لها مع ممثلتها حنان ترك عشيّة وضعها الحجاب. وجاء «العشاء الأخير» (إحالة دينيّة مسيحيّة) خليطاً من دمى وبقايا فضيّات قديمة وصحون. «أحلام البنت الشقيّة» تجمع بين الأقلام والدمية وأشياء المراهقة الأولى، والحقيبة البلاستيكيّة التي عليها صورة امرأة محجّبة. تصوّرت أشياء كثيرة أخرى: حرب الخليج وأزمة النفط وزيارات كوشنير وكوندوليزا إلى المنطقة، تتخيّل حتّى الجنّة والملائكة في صور تجمع بين أبيض الثلج، وأسود التشادور، وعري الدمى، والزهريّ الحالم.
هل هناك شيء من التسرّع والاختزاليّة والسياحيّة في التعاطي مع «الكبت الجنسي والسياسي في مجتمعات مصابة بالإحباط» حسب توصيف جوسلين نفسها؟ هل تقع الفنّانة أحياناً في النزعة الاستشراقيّة التي تريد فضحها؟ المؤكّد أنّها تقدّم لنا مادة مثيرة وغنيّة وملوّنة وغريبة، صادمة أحياناً، وتطرح علامات استفهام عديدة. تتلاعب جوسلين صعب في عملها الجديد بالكليشيهات، و«تحوّر» النظر لتوجّهه إلى أماكن غير مألوفة. تطرح أسئلة حول دور الصورة وسلطتها، وقدرتها على التعاطي مع الرموز والإشارات، والأساطير المؤسسة لثقافتنا وهويّتنا، تلك التي نتشكّل منها في أحيان كثيرة...

غاليري «أجيال» (بيروت) ـــــ حتى 29 ت2/ نوفمبر: 01/345213
وتعرض الأعمال نفسها في مهرجان «خيالات المرأة» في فلورنسا (إيطاليا)
www.jocelynesaab.com

كاتالوغ المعرض أصدرته «الأجندة الثقافيّة»



مبادرة جديدة، جديرة بالاهتمام، تطلقها مجلّة L'Agenda Culturel، هذه المفكّرة الثقافيّة التي تصدر دوريّاً باللغة الفرنسيّة من بيروت. فقد أصدرت على شكل كاتالوغ فنّي صغير، كتيّباً خاصاً بجوسلين صعب، في مناسبة معرضيها البيروتيين. يتضمن الكتيّب العملي والأنيق والسهل القراءة، بعضاً من أعمال «عقل ـــ أيقونات ــــ أحاسيس» في طباعة أمينة للأصل، إضافة إلى مقالات ومعلومات تقدّم التجربة ومفاتيحها وصاحبتها إلى القارئ.
عن علاقتها بالأشكال والألوان، تكشف جوسلين أنّها تعود إلى مجموعة السجاد العجمي في بيت أهلها. وتقول: «أمنيتي الأغلى في السادسة عشرة كانت أن أعمل في مجال السينما والفنون التشكيليّة. لكن تربيتي التقليديّة رمت بي على مقاعد احدى كليات العلوم الاقتصادية. الدراسة أفادتني بأن فتحت عينيّ على الواقع السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط».
وتوضح السينمائيّة اللبنانيّة بعض خلفيّات مشروعها، كاشفة أن منطلقها كان كيفيّة النظر الى المرأة في العالم العربي. وفي أعمال مثل «العشاء السرّي» حيث تختلط الدمى والفضيات والصحون، تقول إنّها استوحت «غارغانتويا» شخصيّة رابليه الكاريكاتوريّة الشهيرة، المقبلة على الحياة والملذات باسراف وضخامة. أما عن مجيئها إلى الفن الفوتوغرافي، فكانت شرارته الأولى اعجاب مديرة مختبرات «فوجي» بالصور التي التقطتها في مرحلة التحضير لفيلمها الأخير «دنيا». وقد وجدت جوسلين في التصوير وفنون التجهيز متنفّساً يبعدها عن السينما. لكنها عملت على كل صورة، لجهة تحديد الاضاءة والديكور والكادر... كما لو أنّها تدير ممثليها في لقطة سينمائيّة. الفارق أن الممثلات والممثلين هنا، ليسوا إلا دمى بلاستيكيّة وشخوص من الجبس، جمعتها من الاسواق الشعبيّة في القاهرة ودمشق وبيروت: «دهشت من كميّة الدمى المتوافرة فوق البسطات وفي المحلات الصغيرة. صرت أطلب من الباعة أن يضعوها لي جانباً كل ما يجدونه في القمامة».
الكتيّب بالفرنسيّة والإنكليزيّة، وهو الأوّل ضمن سلسلة Paroles d'artistes (كلمات فنّانين) التي يتوقّع أن تواكب المعارض الفنيّة في بيروت. وفي ظلّ تقاعس الكاليريهات اللبنانيّة، بشكل عام، عن إصدار كاتالوغات في مناسبة المعارض التي تنظّمها، تبدو هذه الخطوة مهمّة بالنسبة إلى الفنانين ـــ وخصوصاً الشباب منهم ــــ والجمهور طبعاً، وبالنسبة إلى الحياة الفنيّة بشكل عام.
agendaculturel.com