جديد الروائي الأميركي جنس وإلحاد وموت و«نقمة»

متوحّش، مزاجي، على حافة الانفجار يكتب 365 يوماً في السنة، علّه ينسى الموت الذي «يلمع في البعيد كرعد في نزهة». الروائي الأميركي المعروف يأخذنا في آخر أعماله إلى أميركا الخمسينيات في عزّ الحرب الكورية... والبطل كالعادة مرآة روث: يهودي على صراع مع هويته

زياد عبدالله
«الشيخوخة ليست معركة، الشيخوخة مجزرة»، مجابهة عبارة كهذه تكون في البحث عن مُطلقها، عما يقترفه في شيخوخته وهو يميت ولا يرحم، ولا يدع الشخصيّات تخرج حيةً من رواياته الخمس الأخيرة. إنّها مجزرة شخصيات إذاً، والقاتل اسمه فيليب روث (1933). هذا الروائي الأميركي الذي بلغ الخامسة والسبعين، وما زال لا يعرف أبداً التوقّف عن الكتابة للحظة، مستبدلاً الجنس بالموت وعبارة الكاتب البريطاني أودن تتردّد في أعماقه «الموت يلمع في البعيد كرعد أثناء نزهة»... «إنه ينتظرني» يقول روث.
لن يخرج ماركوس مسنر حيّاً أيضاً، سيهرب من نيوآرك في نيوجيرسي إلى حتفه، وتتحقّق كل مخاوف والده عليه وهو يحاصره بقلقه وهواجسه. هكذا، لن يفلت من قبضة فيليب روث في روايته Indignation (نقمة) الصادرة أخيراً عن Houghton Mifflin (بوسطن). ماركوس شاب مثالي في كل شيء، يهودي على صراع مع يهوديته مثل روث، ويشبه كل شخصيّاته التي لم تكن إلا روث متخفياً أو مجتزأً. إنّها خمسينيات أميركا والحرب الكورية مشتعلة، لا بل إنّ «نقمة» عنوان الرواية مأخوذ عن النشيد الوطني الصيني: «نقمة تملأ قلوب كل المواطنين».
تصلح المرايا أن تكون معبراً إلى عالم روث الروائي. هي موجودة في كل أعماله لا تعكس إلا صورته هو على خلفيّة تضيء غالباً مرحلةً مفصليةً من التاريخ الأميركي الحديث، في فعل مجاورة دأب عليه منذ عام 1959 برواية «وداعاً كولومبس» (جائزة الكتاب الوطني الأميركية). بعد روايتين، كانت «شكوى بورتنوي» (1969) التي فتحت عليه أبواب الشهرة وجهنم، باعت 400 ألف نسخة فور صدورها، ووضعته في قفص «معاداة السامية» ووصفه بالخائن لأبناء جلدته. إذ إنّ آلكس بورتنوي يعترف على سبيل المثال بأنّه أمضى نصف حياته خلف باب الحمّام الموصد، في إضاءة على مأزق تلك الشخصية «الاستمنائية» ثم تتوالى شخصيّات أخرى بعدها صوّر عبرها روث «معنى أن تكون يهودياً في هذا العالم الحديث».
الحرب الشعواء التي أُعلنت على روث قادته إلى مخلِّص من اختراعه، سمّاه ناثان زكرمان، جعله كاتباً، بديلاً عنه، ظلاً يخفّف من جنوحه إلى «الأتوبيوغرافية». هكذا، راح روث ينقله من رواية إلى أخرى في ما عرف بـ «ثلاثيّة زكرمان وخاتمته» التي ضمّت تحت هذا المسمى أربع روايات كتبها بين 1979 ــــ 1985 وبدأ بتكوين زكرمان وفق إملاءات ما يواجهه: فهو يبحث في «شبح الكاتب» عن آنا فرانك آخر الناجين من الهولوكست التي تبدو في النهاية من نسج خياله... ويؤلف زكرمان رواية شبيهة بـ «شكوى بورتنوي» في «زكرمان محرّراً»، ويواجه جدلاً شبيهاً بما أثارته، بينما يعاني في «درس التشريح» تشريح ذكرياته وحنينه وفشل زواجه وعلاقاته العائلية المتأزمة. حتى نصل إلى خاتمة الثلاثية برواية قصيرة حملت عنوان «عربدة براغ» حيث يبحث زكرمان عن مخطوطة مفقودة لكاتب يهودي إبان الفترة الشيوعية في تشيكيا.
لكن كيف يمكن وصف ناثان زكرمان؟ يمكن أن تكون الإجابة بأنّه ذو فاعلية إبداعية عالية وشهوة جنسيّة متدفقة متأتية من ذكورية روث المتضخمة، كما يمكن أن تكون بكلمات روث «يهودي من دون يهود، من دون دين يهودي، من دون صهيونية، من دون هيكل أو جيش أو حتى مسدس، يهودي من دون وطن، إنّه شيء مادي، مثل كأس أو تفاحة». الثلاثية لم تضع حداً لهذه الشخصية، فسرعان ما عادت للظهور في رواية «حياة معاكسة» (1986) حيث تموت جراء أزمة قلبية، لتعيش مجدداً في رواياته الفائزة بجائزة «بولتيزر» «حكاية رعوية أميركية» (1997). بعد انقطاع روث عن الكتابة الروائية لأكثر من 11سنة، يعود زكرمان مجدداً لكن بحضور مخفف ليس له دور البطولة بل كراوٍ أو معلّق على الأحداث. ويظهر بعد ذلك بقوة في «البقعة البشرية» (2000) و«شبح المَخرج» (2007).
كل ما عاشه فيليب روث حاضر في رواياته، زوجته الأولى مارغريت مارتينسون ألهمته شخصية لوسي نيلسون في «عندما كانت طيبة»، وطلاقه منها جعله يكتب «حياتي كرجل» حيث مورين امرأة مخادعة تُوقع كاتباً في حبالها وتورطه بالزواج منها، وتستخدم بول امرأة متشردة في فحص الحمل لتخفي أمره عنه. زواجه الثاني بالممثلة البريطانية كلير بلوم وضعه أيضاً أمام مزيد من الشخصيات النسائية، لكن طلاقه منها بعد خمس سنوات، وضعه هو تحت مجهرها. إذ إنّها ألفت كتاباً حمل عنوان «مغادرة بيت الدمية» صوّرت فيه روث كشخص متوحّش لا يطاق، مزاجي على حافة الانفجار في أي لحظة، وجاهز لطرد ابنتها من زواج سابق لا لشيء إلا لأنّ حديثها ممل. وفي مقابل هذا الكتاب، ألّف روث رواياته «تزوجت شيوعياً» (1998) التي تحكي عن امرأة تخرّب حياة زوجها الكاتب بتأليف سيرة ذاتية تتناول خصوصياته.
هذه الحركية العالية لأعماله في حياته تترافق دائماً مع توثيق لمرحلة تاريخية أميركية. رغم دوافع روث الشخصية في كتابة «تزوجت شيوعياً»، إلا أنّ شبح «المكارثية» كان حاضراً بقوة، بينما أضاء في «خطة ضد أميركا» (2004) رعب المباغتة التي قد يخفيها التاريخ، أو قدرته على تحويل الكارثة إلى ملحمة، مصوّراً كيف كانت طفولته تحت حكم رئيس فاشي في أميركا الأربعينيات بعدما تخيّل أنّ الطيار المعروف تشارلز ليندبيرغ المتعاطف مع النازية فاز على روزفلت في الانتخابات الأميركية!
يستهجن فيليب روث أوصافاً مثل «الأدب الأميركي اليهودي» أو «الأدب الأميركي الأسود»... «إنّها ملصقات تخدم أجندات سياسية». ولعل وضع جاي دي سالينجر إلى جانب نورمان ميلر سيجعل من ظهور فيليب روث من بينهما اعتصاراً لذاتية الأول الصافية، وذاتية الثاني المطعّمة بكل ما أنتجته الحياة الأميركية الحديثة... مع التأكيد على أسلوبية روث الخاصة. ثم إن نيو آرك ـــ نيوجيرسي في أدب روث، المكان الذي ولد فيه ــــ يمثّل جغرافية مماثلة لمانهاتن في أدب سكوت فيتزجرالد، وماسشوستس جون آبديك.
روث الآن وحيد تماماً مع شخصيّاته، أصدقاؤه ماتوا واحداً تلو الآخر، ووصفته الوحيدة في مواجهة الشيخوخة تتمثل بالكتابة 365 يوماً في السنة.

تلميذ الرغبة



لا يعود فيليب روث في Indignation إلى ناثان زكرمان كما فعل في Exit Ghost «شبح المَخرج» التي سبقتها، ولا يتخلى عن حسنات وموبقات عالمه الروائي مع ماركوس مسنر الذي يخبرنا من السطر الأول ملابسات الحرب الكورية ويمضي بنا إلى حياته في نيو آرك، والتزامه العمل مع والده اللحام، وموجات الوساوس التي تجتاح الوالد جراء شعوره بأن ابنه الوحيد قد تطاله يد الموت في أي لحظة... واجداً في تعقبه وتضييق الخناق عليه أفضل ما يفعله أمام اعتقاده بأنّ «هفوة صغيرة قد تكون نتيجتها كارثة».
مشاعر الأب تترافق مع تصاعد وتيرة الحرب الكورية، وتراجع أعماله أمام محلات «السوبر ماركت» الكبرى التي بدأت تهيمن على كل شيء. ماركوس شاب طامح، يدرس ويقرأ ويتقن كل أسرار مهنة والده. وفي محاولته النجاة من لعنة هذا الأب، يقرّر الدراسة في جامعة بعيدة عنه في وينسبيرغ ــــ أوهايو في استعادة للمكان الذي عنون فيه شرود اندرسون مجموعة قصصية له كتبها عام 1919 وكانت تضيء الحياة في بلدة أميركية صغيرة ومآزق العزلة والزمن المتوقف.
انعطافة الرواية الرئيسة تأتي مع الربع الأول منها باكتشاف أنّ ماركوس شخص ميت، وأن ما نقرأه هو أحداث آخر سنة له على الأرض، والأمر مشرّع للخيالات بأسلوب «بيكيتي» بامتياز، فأمام خوفه من المشاركة في الحرب الكورية، يتخيّل نفسه ضابطاً، كما نرى أنّ الدين والجنس يمثّلان المعضلتين الرئيسيّتين في حياة ماركوس الجامعية. مع احتكاكه بجماعة يهودية دينية، يسطع إلحاده بقوة معززاً بأفكار براترند راسل، وأمام وعورة الحياة الجنسية في بلدة صغيرة في بداية الخمسينيات، يجد ماركوس في أوليفيا مخلّصةً له، رغم انهياراتها النفسية ومحاولاتها المتكررة الانتحار، وتذكره آثار السكين على معصمها بأحشاء الدجاج الذي كان ينتزعه في دكان والده.
ولعل توصيف ديفيد غيتس في «نيويورك تايمز» لماركوس بـ «تلميذ الرغبة» يقارب مكوناته ودواخله: تلميذ يمزج الجنس مع الإلحاد والخيال ويموت، ويكون كل ذلك تحت قبضة فيليب روث المحكمة، وضربات قلمه الموجعة والمستعجلة في كل شيء حتى في موته.