شاعر التفعيلة في عباءة عبّاس محمود العقّاد
حجازي عاد إلى ساحة المعركة، مع كتاب بعنوان «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» (كتاب دبي الثقافية). يحطّم الشاعر المصري المعروف كل منجزات قصيدة النثر خلال الأعوام العشرين الماضية... مشيراً إلى أنّها تتغذّى من «انهيار اللغة وتراجع الشعور بالانتماء»

القاهرة ــ محمد شعير
يبدو الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي كمن «يناطح الصخر» وحده في معركة قديمة محسومة تقريباً: معركة قصيدة النثر. إنّه «مكر التاريخ»... فعندما بدأ حجازي الكتابة في بداية الخمسينيات، كان عبّاس محمود العقّاد ألمع الأسماء في الخمسينيات، مقرّر لجنة الشعر. يومها، رفضَ العقاد سفر حجازي وصلاح عبد الصبور للمشاركة في أحد مؤتمرات الشعر في دمشق «لأنّ ما يكتبانه ليس سوى عبث نثري، والشعر لا يصبح شعراً إلا بـ«القافية». وقتها، كتب حجازي قصيدةً شهيرةً في هجاء العقاد بعنوان «من أي بحر». ومرّت الأيام، فوجد حجازي نفسه في مقعد العقاد، مقرّراً للجنة الشعر في مصر. وإذا به يفعل أسوأ مما فعله الشاعر الكلاسيكي. إذ بدأ يستبعد شعراء النثر من المؤتمرات التي يشرف عليها، وها هو يخوض الآن حرباً ضدّهم في كتابه الجديد «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء».
مقالات الكتاب ليست جديدة تماماً، كتبها صاحب «مدينة بلا قلب» عام 2001 ونشرها في مقاله الأسبوعي في جريدة «الأهرام» وأثارت وقتها جدلاً كبيراً. يتذكّر الشاعر عبد المنعم رمضان أنّ المقالات نشرت مباشرةً بعد مشاركته مع شعراء آخرين في مهرجان «الشعر العربي الفرنسي»: «كانت تلك الدورة الأولى التي لم يكن فيها حجازي «عراباً» للمؤتمر. لم يكن مسؤولاً عن اختيار الضيوف كما كان في الدورات السابقة، ولذا جرى اختيارنا. وعندما عاد من باريس كتب هذه المقالات، منتقداً اختيار 13 شاعراً عربياً لا يكتبون سوى قصيدة نثر». يضيف رمضان: «اتّصلت به وأخبرته أنّ كثيراً من القصائد التي ألقيت في المؤتمر لم تكن نثرية. مثلاً كل قصائدي التي ألقيتها قصائد تفعيلة. وعدني بتصحيح المعلومات في مقاله التالي، لكنه لم يفعل».
الشاعر إبراهيم داوود يرى أنّ كتاب حجازي لا «يستحق النقاش، لأنّ قصيدة النثر موجودة به وبغيره، وعندما قرأت هذه المقالات ظللتُ أضحك. رغم أنّ حجازي يريد أن يظهر بمظهر الليبرالي، إلا أنّ مقالاته تكشف عن فاشية. إذ يكتب عن الحرية ويستثني شعراء قصيدة النثر».
يتفق الناقد والشاعر محمد بدوي مع إبراهيم داوود: «لقد حسم شعراء مثل الماغوط وأنسي الحاج وسركون بولص الجدل بشأن قصيدة النثر» مضيفاً: «طرح حجازي قضية قصيدة النثر، ليدحض فقط هذه القصيدة وأنصارها. لذا كان عنصراً أساسيّاً في نقاشه هو دور الوزن في الشعر. أهو ضروري أم يمكن الاستغناء عنه؟ وهو لا يسأل هذا السؤال طلباً لإجابة، بل من أجل تأكيد ما يؤمن به بأنّ الشعر لا يكون كذلك إلا حين يكون موزوناً». ويضيف: «عند قراءة المقالات، سنكتشف إيمان حجازي بأنّ الشعر ماهية مطلقة، تتغيّر الأزمان والأمكنة، لكن يظل الشعر كما هو ثابت ومطلق، رغم أنّ حجازي يرفض في سياق آخر أن يسلّم لآخرين بأن ثمة خطاباً لغوياً يصلح لكل زمان ومكان، وإلا ما اختلف مع دعاة الإسلام السياسي. لكن حين يختص الأمر بالشعر، ينسى ليبراليته ودعاوى التعددية الفكرية، ويصبح على نقيض ذلك».
يرى حجازي في مقالاته أنّ قصيدة النثر بدأت منذ 100 عام. لكن رغم تاريخها الطويل، فهي لم تقدّم إنتاجاً شعرياً متميّزاً حتى الآن. يعلّق بدوي: «ما يقوله حجازي تعوزه الدقة، لأنّ هذه القصيدة صنعت لنفسها تاريخاً موغلاً في القدم يعود بها إلى ذلك الخطاب اللغوي المتسم بتركيز الدلالة الذي نجده لدى النّفّري وبعض ما كتبه أبو حيّان التوحيدي، وهي مرحلة أولى. أما المرحلة الثانية فهي تلك التي دشّنها محمد الماغوط وأنسي الحاج بعدما كان حسين عفيف وأمين نخلة والريحاني حرثوا الأرض لها. وفي تلك المرحلة، ثمة إنتاج لافت اتّسم بخفوته لأنه كُتب تحت تهديد قصيدة التفعيلة التي كانت قادرة على الاستجابة لمرحلة حركة التحرّر الوطني. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سركون بولص حتى الآن، وهي الجزء الأكثر حيويةً في القصيدة العربية. لهذا أتصوّر أنّ ما يقوله حجازي عن عدم وجود شعراء مهمّين تعوزه الدقّة أولاً، ولا ينتبه فيه إلى تغيّر وظيفة الشعر ثانياً». هل قصيدة النثر لم تتضح طبيعتها ومعالمها كما يقول حجازي؟ تجيب الشاعرة فاطمة قنديل: «بالتأكيد، لكن هذا في مصلحتها، لأنّ الشعر حالة من حالات التجريب المستمر، ضد الاستقرار. وكان يُفترض أن يستمر حجازي نفسه في التجريب حتى الآن، لكنّه توقف عن الكتابة منذ أكثر من 20 عاماً».
مفاجأة أخرى تعلنها قنديل: «لا يوجد ما يسمّى قصيدة النثر، هو مصطلح غير مفهوم بل مثير للحساسية والجدل. ما أتصور أنّه فاعل في حركة الأدب، هو ما نسمّيه «كتابة» وهو لفظ ينطوي على دلالات كثيرة. فالكتابة يجب أن تكون صادرة من ذات خاصة جداً، تكتب فرديتها خصوصيتها وتجربتها، ويمكن أن تتداخل في الكتابة كل الأجناس لنحصل على كتابة خاصة». وعن وصف القصيدة بأنّها «ناقصة» أو «خرساء» تقول قنديل: «يجب ألا نتعامل مع القصيدة كأنّها في حاجة إلى جهاز تعويض، الموسيقى التي يبحثون عنها في قصيدة النثر هي جهاز التعويض. أنا أحب السينما مثلاً وقصيدتي تعتمد على تقنياتها أكثر مما تعتمد على تقنيات الموسيقى أو التشكيل. من ناحية أخرى، الكتابة دائماً هي كتابة صمت وليست كتابة خرس، ومن المدهش أن نعيد الحديث إلى ما قاله الشاعر الفرنسي موريس بلانشو في الخمسينيات من القرن الماضي». وتتفق قنديل مع حجازي في نقطة مهمّة: «هناك بالفعل شعراء أفسدوا قصيدة النثر لأنّهم محدودو الموهبة، لكنّ الأمر ذاته ينطبق على شعراء يكتبون التفعيلة، والعمودي، هذه مسألة واردة وليست مقياساً. أريد أن أسأل ما هو إنجاز قصيدة التفعيلة بعد قصيدة أمل دنقل؟».
الشاعر عزمي عبد الوهاب يتساءل: «إذا كان لقصيدة النثر أن يحاكمها خصومها لأنها­ ــــ حسبما ذهبوا ــــ ­مسؤولة عن انحطاط الذوق العام، وضعف الشعور بالانتماء، فهل يجوز لنا أن نحاكم أصحاب القوالب القديمة، لأنّهم واكبوا بقصيدتهم هزيمةً كاملةً ونصف انتصار؟ لقد دخلوا بتلك القصيدة مع تحرّر العالم العربي من الاستعمار، وضياع وطن بأكمله (فلسطين)، وانتهوا بلحظة سيولة عالمية، أفقدتهم مواطئ أقدامهم، فتوقف أغلبهم عن الكتابة!».
الشاعر علي منصور يرى أنّ «حجازي شاعر كبير ومشواره الشعري بات علامة في حركة التجديد التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي. لكنّه من خلال مهاجمة قصيدة النثر، وإصراره على تبنّي الأحكام المطلقة في تقويمه لها، قد سلك نهجاً يسيء إلى رصيده ولا يضيف إليه. فقصيدة النثر لم تعد بحاجة لاعتراف من أحد حتى، ولو كان هذا «الحكَم» بقامة حجازي الشعرية... فقد أصبحت الآن تمثّل متن الكتابة الشعرية وباتت الأقرب والأكثر تعبيراً عن الحاجات الروحية للإنسان العربي في هذه اللحظة». ويضيف منصور: «لحجازي مطلق الحرية في قبول ما يشاء أو رفضه، لكنّ الخطورة تكمن في أنّ آراءه الشخصية تنسحب سلباً على مواقفه وسياساته في المواقع التي يشغلها، من رئاسة لجنة الشعر إلى رئاسة تحرير مجلة «إبداع»».