رداً على نجوان درويشإسحق لاؤور
إذا افترضنا أنّ نجوان درويش كتب ما كتبه ضد المجموعة القصصيّة التي حررتها جمانة حداد، لأسباب سياسية فقط، فإنّني سأحاول احترام النقاش وقول أمور موجزة، تكون بداية لنقاش طويل: ألا تمثّل مناهضة التطبيع (normalization) خطراً على الاستواء (Normality)؟ أليست المقاطعة التامّة تدميراً ذاتياً؟
يكتب درويش ضد «كتاب يضع تل أبيب في جغرافيا المنطقة العربية ووجدانها، كأنّها شقيقة لبغداد وبيروت وعمّان واللاذقية». وأنا، مَن لا أغنّي حتى نشيدي الوطنيّ، لا أعرف ما يعنيه «وجدان المنطقة العربية»، وأصدقكم القول حين أقول إنني لا أعرف أيضاً ما هو «الوجدان اليهوديّ» ولا «الوجدان السوريّ»، مع أنني درستُ الجغرافيا. وإذا لم تظهر تل أبيب في مجموعة قصصية تأتي من الشرق الأوسط، فهل ستختفي عن خارطته؟ هل سيصير الأدب العربيّ أفضل إذا امّحت تل أبيب وساكنوها من «وجدان المنطقة العربية»؟ هل يُكتب الأدب الجيد من قلب الإنكار والرفض؟ أليس هذا التوجّه أحد أضرار الاحتلال، حين يطلب شاعر يُعميه الألم أن يُصاب أخوه بالعمى مثله؟
لكنّني أرغب بجدال نجوان درويش من مكان آخر غير تل أبيب، من المكان الخاصّ بأناس مثلي، الذين تُلقى عليهم مهمة واحدة لا غير: أن يشاركوا «في كتاب يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي أو إرهاب الدولة العبرية، أو فاشية المجتمع الإسرائيلي المتصاعدة». ما الذي يقوله إذًا؟ إنني جيّد عند خدمتي للقضية الفلسطينية فقط. ولكن هذا يقول شيئاً آخر، وقد حان الوقت لقوله: هناك نوعان من الخطاب في المجتمع العربي؛ في أولهما يتحدثون عن دولة واحدة (علمانية، ديموقراطية وسائر الأمور الجميلة)، ولكن لا يجري الحديث عن هوية الذين سيناضلون من أجل هذه الدولة (وما إذا كان على تل أبيب أن تكون جزءاً من هذا النضال). وتحت هذا الخطاب هناك خطاب آخر، أخطر بكثير، وباسم هذا الخطاب يقول درويش: أنا لا أريد أن أعرف عن وجود يهود في الشرق الأوسط. هذه توصيفات نابعة من صدمة (تروما)، والصدمة لا تُنتج أدباً كما لا يمكن النضال بواسطتها.
مواقفي ضد الصهيونية غير مهمّة في هذا الخطاب، ونشاطاتي مع الفلسطينيين، عبر سنين طويلة، غير مهمّة أيضاً. يمكنني أن أفهم الحياة الفظيعة التي يحيا درويش في قلبها لأنني جزء من الشرق الأوسط. ولو كنت إنكليزياً أو سويدياً، كنت سأقول: لا بأس. لكنني لست إنكليزياً ولا سويدياً. أنا من الشرق الأوسط، وعدا كوني «صدمة» نجوان درويش، فإنني أعتقد أيضاً أنّ موقفه متعاون مع الفظاعة، لأنّ هذا الموقف يقول في واقع الأمر: صحيح أنّ تل أبيب قائمة إلا أنّها لن تكون قائمة في النفس. هذه صيغة غير جادّة من الصمود.
لا يمكن لدرويش أن ينسى ماذا تكون تل أبيب. لكن عليه أن يقرأ الاختلافات الكائنة فيها. ولو انتظر الكتاب الذي سارع بالمطالبة من المشاركين فيه بأن يتحفظوا على إشراكي فيه، لو انتظر قراءة قصتي، لكان عرف أنّ هذه القصة تتخيّل تل أبيب ثكنةً عسكرية كبيرة، وجميع الجنود فيها مرضى، ومن فوقها، في البرج، في غرفة الجنرال المُسنّ، يقف والد أحد الجنود، وهو شخصيّة قومية مهمة، ويتعقّب حالة ابنه يئير، كي لا يفرّ من الجيش. في نهاية القصة، يهرب الابن ويسافر في توصيلة مع جنرال شاب آخر. هذه كلمات النهاية في القصة: «سافر يئير مع الجنرال، وقال: قل لي، ألا يبعث الجيشُ فيك المللَ؟» فنظر الجنرال إليه وقال: «الآن، وأنت تسألني، أعتقد أنه يفعل، بلى. ولكن، أليسوا بحاجة إلينا؟». يئير: «كلا، لا أعتقد هذا». ثم فكّر الجنرال بأنّ يئير يمازحه، فيما كان يئير يرى بينه وبين نفسه عصفوراً عملاقاً يُزهر ويأخذ معه المدينة برُمّتها».
إذا كان درويش يعتقد أنّ عَماه يدفع نحو التحرير ولو بمليمتر واحد، فإنّ الكارثة ستستمرّ عندها، كارثتنا جميعاً؛ فهذا هو المنطق العنصريّ بعينه: حيّز خالٍ من العرب أو حيّز خالٍ من اليهود. ربما هذا ما جعل قصتي تنتهي بعصفور عملاق يأخذ المدينة معه.