جدران الـ «سيتي كافيه» عراقيّة ملطّخة بالنور والدم والصراخشوقي عبد الأمير *
عندما التقيته في بغداد في غاليري «حوار» التي صارت ملتقى للفنانين والأدباء كأنّها استجماع لمقاهي بغداد الثقافية التي غربت، ربما إلى الأبد. هناك بدا لي سلام عُمر ــــ رغم هدوئه المستدير مثل وجهه ــــ لاهثاً في نظراته، كمن ينظر وعلى رموشه ارتجافةُ عصفور خائف... كانت قد مرّت سنوات منذ آخر لقاء لنا في بيروت، ذكرَ مأساته العائلية التي قُتل فيها عددٌ من أقربائه، وتشرّده مع عائلته والتهديدات التي لاحقته وكادتْ... كان على عجالة من أمره لكن قبل أن يودّعني لم يفته أن يعدني بمعرض قريب في بغداد وبيروت. وها هو أمام لوحاته في بيروت، أراه يمزّق قماشة اللوحة مثل ثعبان يخرج من جلده؛ فضاءات تشكيليّة تتصاغر أو تتسع، فاللوحة الواحدة يمكن أن تكون بضع لوحات مصطفّة بعضها لبعض، كتفاً لكتف لتكوّن جداريةً واحدةً، إذ لا حدود بين لوحة وأخرى. ولهذا ـــ كما يبدو ـــ تخلّص من الأطر وهو يسمّي ذلك «رسم الأطر»، وهكذا يمكنك أن تجمع كل المعرض في جدارية واسعة وترى عملاً واحداً... وفي الوقت نفسه تحتوي كل لوحة على عدد متصاغر من اللوحات تفصلها خطوط متقاطعة تحيل الفضاء التشكيلي لديه إلى مستطيلات أو مربّعات، تصغر وتكبر فترى عشرات اللوحاتهذه الحركة نحو التجزئة تارةً والاتساع والامتداد طوراً هي أولى السمات الجديدة لأعمال سلام عُمر، لكنّه هذه المرّة فاجأني باستعمال أبجدية مستعارة وضعها مثل وشاح أو ستارة فوق تشكيلاته... فرغم أنّ موضوع المعرض هو «رباعيات الخيام»، فإنّ استعمال النص الإنكليزي للرباعيّات، ووضعه بطريقة بارزة، بدوا كمن يريد بذلك إثارة حركة مضادة تعترض، تقف حائلاً بين روح اللوحة وألوانها ورموزها وبين المشاهد، مثل شاشة حروفية إنكليزية غير شفافة. لأول وهلة لا تفهم ماذا يريد، وتكاد تستنكر عليه هذه الممارسة: لماذا اللغة الإنكليزية وعمر الخيام فارسي وأنت عربي!
يبتسم سلام عُمر، ويقول لك بلغة تكاد بعفويتها وتلقائيّتها تطغى على أي تعبير فني. «هي الإنكليزية التي أسمعها اليوم في بغداد، والتي تحتل كل شيء. لماذا لا أضعها أيضاً على قماشة اللوحة، تقف حائلاً بين روح اللوحة وبين المشاهد؟ أليس في هذا التركيب ما يشبه وجودها فوق خارطة العراق!»
التفاتة رائعة، وخصوصاً عندما ترى أن سلام عمر لم يستعمل اللغة الإنكليزية بأداء خطي حروفيّ، كما يفعل عادة الفنانون الذين يتعاملون مع جماليات الحرف... فهو لم يكن يقصد جماليات الحرف اللاتيني لذا وضعها مطبوعة تكرّر نفسها في جميع اللوحات وغالباً باللون الطاغي نفسه، مثيرة حالة الإعاقة نفسها ومحاولة الحجب.
لكنك بعد أن تزيح ستائر اللغة الإنكليزية التي توهمك بعناوين رباعيات الخيام، تدخل إلى عالم سلام عمر وكائناته فترى أوشحةً تتمفصل، تلتفُّ، تُعرَّى فتغطيها الأجساد، أو أجساداً تخرّ مثل جُدران مثقوبة تطلّ من خلالها سماء زرقاء، تجري من تحتها أنهار... وامرأة. دائماً امرأة، جسدٌ أو وجه أنثى. بشراتٌ وخطوط تَتَمرأى، تتهاوى تارة مثل نيازك تحترق قبل أن تصل إلى أرضها أو تفترش مساحة اللوحة مثل سيدة برداء أرستقراطي تعرف كي تسمّي سيادةَ الجسد بعلوّ قامةِ نظراتها. وفي زاوية أخرى، جسدٌ كأنه يشتعل، نارٌ صفراء مُجسّدة تتهاوى في أفق. وبالحدة نفسها من الإشعاع يهوي إلى جانبها تابوت هو الآخر مزهوّ بآلائه.
مربعات ومستطيلات تفترش أرض اللوحات وفضاءها، لكنها تبدو كأنها قضبان زنزانة، وكأن الكائنات خلفها تحاول الخروجَ، القفزَ، تمزيقَ الأُطُر... هل كنتَ تقصدُ ذلك؟ أسألُ سلام عُمر، فيجيبني بنوع من الانفعال: «هل تعرف، لقد رسمتُ كل هذه الأعمال وأنا في البيت محاصر لا أستطيع الخروج. فقد كنت مهدّداً». يمسك بيدي ثم يقودني إلى زاوية في لوحة: «أنظر هذا القناع الرهيب! إنه بعين واحدة ووجهٍ لا وجه فيه. نظرةُ العين الوحيدة فيه تكاد تزلّ قدميك عن مستقرّهما. إنه الإرهابي الذي دخل بيتي وهددني أنا وعائلتي. أُغمي على أولادي من الرعب، وأنا أصبتُ بالسكّر فوراً. جفَّ حلقي ولا أعرف كيف نجوت».
هنا أنسى التشكيل والألوان وضجيج الـ «سيتي كافيه» حيث تعرض اللوحات. لحظة صمت تطول يقطعها سلام عمر بالقول: «هل تعرف، كان ينصحني بالحذر وعدم الخروج والحيطة في الحركة... ثم قتل هو».
ـ من تقصد؟
ـ «كامل شياع. كان يخاف كثيراً علي وكان يحذّرني دائماً».
أجل كان كامل شياع يخاف على الآخرين لا على نفسه. نصح الجميع بالحذر ونسي نفسه فسقط بكاتم صوت. هذا الكاتم نفسه هو الذي يرفع اليوم صوت كامل شياع عالياً، تلك بعضٌ من امتيازات الكاتم وخصائصه التي لا يذكرها كاتالوغ بائع الأسلحة أو مروّجها.
من بيروت إلى بغداد، إلى الأصدقاء إلى الموت هناك شريانٌ أسود يربط العراقي بالعراق، ما زال يشدّنا مثل حبال السفن التي تشد المراكب إلى حجر المراسي... هذا الشريان هو الذي يتدفق شعراً وتشكيلاً وفنّاً دون انقطاع. زبائن الـ «سيتي كافيه» كعادتهم حول طاولاتهم، قَلَّ من يلتفتُ من بينهم إلى الأعمال التي قلبتْ المقهى اليومي إلى غاليري من الطراز الأول. بعضهم مندهش: ماذا يفعل مثل هذا المعرض هنا؟ ولماذا لم نسمع بإعلان في جريدة؟ ولماذا لا توجد حتى بطاقة دعوة ولا كارت فيه صورة؟... ولا حتى أيّةُ إشارة غير اعتيادية في هذه المقهى، سوى أنّها استبدلت جدرانها البيروتية التي يعرض عليها عادة فنانون هواة بجدران عراقية ملطخة بالنور والدم والصراخ.
دخل بعض الأصدقاء الأدباء، سلّموا بحرارة ولم ينظروا حولهم، فيما ظل الجدار العراقي بقضبانه وشخوصه ولطخات دمائه وصيحاته يسوّرنا صامتاً شاخصاً... مضيئاً.
* شاعر عراقي ــــ رئيس
تحرير «كتاب في جريدة»


«رباعيات الخيام» ـ حالياً في مقهى «سيتي كافيه» (بيروت) ــــ للاستعلام: 01/802286