حسين بن حمزةيضم كتاب أمجد ناصر الجديد «طريق الشعر والسفر» (رياض الريس للكتب والنشر) شهادتين شخصيتين، الأولى: «من دندنة الكلمات الأولى إلى قصيدة الكتلة ورواية الحقيقة»، قُدِّمت إلى «مؤتمر الشعر الأردني» في عمّان عام 2002، والثانية: «طُرُق منحرفة إلى قصيدة النثر»، قُدِّمت إلى «مؤتمر قصيدة النثر» في بيروت عام 2006. بدل الشعر يجد القارئ كلاماً في الشعر. يُمتّعنا هذا الشاعر الأردني في قصيدته، وها هو يعاود ذلك حين يتحدث عن تجربته والطرق التي سلكها، أو شقَّها، في إنجاز هذا الشعر. في شهادتيه، يطارد الشاعر قلقه الشعري، ولكنه ـ بقصد أو بدونه ـ يوفِّر لنا فرصة الاطلاع على سيرة شخصية تتراءى بين السطور. في تجربة صاحب «مديح لمقهى آخر»، تبدو السيرة جزءاً من الكتابة. مردُّ ذلك أن الشاعر حمل قصيدته حيثما حلّ. الأمكنة والعوالم الطارئة تركت آثارها عليه وعلى عمله الشعري. لعلّ هذا ما دفعه إلى اختيار عنوان يضع الشعر والسفر في طريق واحدة. قصيدة أمجد ناصر هي الابنة البارّة للتنقل وارتياد الآفاق. ثمة شيء قَدَري في ذلك. منذ البداية، قادته قصيدته القلقة إلى أرض أخرى تأنس إليها، فترك مسقط رأسه إلى العاصمة عمّان، التي لم تستطع ترويض هواجسه، ثم إلى بيروت التي ستضعه أمام خيارات صعبة: النبرة الحماسية والغنائية لانتمائه السياسي، وطموحه إلى كتابة قصيدة تتجنّب كل ذلك، فضلاً عن شكّوكه في قدرة «قصيدة التفعيلة» على مجاراة مخيلته وطموحاته، حيث سيهجرها سريعاً إلى «قصيدة النثر». لعلّ أقرانه في تلك الفترة يتذكرون «خيانته» لهم حين هجر الإيقاع إلى «قصيدة النثر»، ولعلّهم يحتفظون باستهلاله لديوانه الثاني «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» بمقطع نثري لأنسي الحاج، كخيانة إضافية.
بيروت هي «تاريخ فاصل» في تجربة صاحب «رعاة العزلة». هنا ارتطمت قصيدته بهويات شعرية كثيرة واحتكّت بنبرات متعددة. كتابة أمجد ناصر هي سليلة هذه الاحتكاكات. اللافت أن التجارب والنبرات التي احتكّ بها سرعان ما تسرّبت إلى نسيج قصيدته وأصبحت جزءاً غير غريب عنها. أمجد نفسه وصف تجربته مرةً بأنها «قفزات شعرية». وها هو يتحدث في كتابه عن «ميل أصيل إلى الانشقاق» رافق شعره وحياته. أما عباس بيضون الذي دبّج مقدمة مميزة لـ «الأعمال الشعرية» لأمجد، فلم يجد لقباً أفضل من «سندباد بري» ليختزل تجربته. على أي حال، عباس حاضر في الكتاب، إلى جانب أسماء أخرى يحتفي أمجد ناصر بصداقته الشخصية والشعرية بهم: زكريا محمد، غسان زقطان، سعدي يوسف، نوري الجراح، بسام حجار، صبحي حديدي ...
الشاعر ذو «التفعيلة» القلقة الذي اعتقد أنه عثر على ضالته في قصيدة النثر لن يهنأ له بال. السندباد الذي في داخله تململ مجدداً، مبدياً ضجراً من الشكل الشائع لقصيدة النثر. هكذا، شهدنا انشقاقاً آخر في ديوانه الأخير «الحياة كسرد متقطِّع» الذي تضمّن قصائد نثر مكتوبة على سطور كاملة. هذا الانشقاق سيتحول إلى منصّة نظرية للتساؤل عن ماهية قصيدة النثر في الغرب، والالتباس الذي رافق تسمية النسخة العربية منها. تساؤل أمجد ناصر ينضم إلى أصوات عديدة تطالب اليوم بتصحيح ذاك الالتباس. ولكن هل سيضع هذا حدّاً لانحرافاته هو؟