في روايته الثانية «سَلّام» (دار الساقي)، يغوص الروائي السعودي هاني نقشبندي في التاريخ العربي والإسلامي في الأندلس، ليخرج بإسقاطات غزيرة على راهننا من «صراع الحضارات» إلى أصحاب المال الذين يعتقدون بأنّهم يصنعون التاريخ!
حسين السكاف
يرى هاني نقشبندي في «سَلّام» (دار الساقي) أنّ المجد الأندلسي والتاريخ العظيم الذي يتمسّك به بعضهم، ما هو إلا مجد زائف وتاريخ مخزٍ. ليس في الأمر ما يثير الفضول. هذا ما يتلمّسه القارئ في بداية الرواية: أمير سعودي شاب في رحلة بحرية على يخته الفاخر، قاصداً مدينة ماربيا الإسبانية الساحلية التي يمتلك فيها قصراً صغيراً. إلا أنّ هناك متعةً نتلمّسها في السخرية التي يمارسها الراوي على شخصية الأمير الشاب من خلال ذوقه البشع في تصميم قصره، وجهله بمعالم إسبانيا ومدنها. صحيح أنّ الأمير دائم التردد على إسبانيا، إلا أنه لم يرَ منها سوى ماربيا حيث قصره، رغم قناعته بأن «لا شيء في هذه المدينة يذكّر بالأندلس».
يستمر الراوي في نقل الصورة تلك من خلال رماح مرافق الأمير، رجل أسمر ضخم عنيف ولطيف في آن واحد، سليط اللسان، متحدث بارع، يعرف كيف يروي الأحداث كما لو أنّه شارك في صنعها. وتستمر الرواية في الوتيرة نفسها حتى يزور الأمير للمرة الأولى قصر الحمراء في غرناطة، فيسحر بعظمته، ويقرر بناء توأم القصر على تلة في مدينة الرياض. أما قراره هذا، فلم يكن بهدف رد الاعتبار لتاريخ إسلامي أو عربي، ولا حتى تقديس ذكرى الأندلس، بل لأنّ القصر أعجبه ببساطة.
تبدأ نقطة التحول في الرواية لدى ظهور ابن برجان الشيخ الجليل الزاهد الذي أتى ليحذّر الأمير من لعنة القصر. وهي اللعنة التي ستحلّ عليه إذا نفّذ البناء، ثم يقترح على الأمير مقابلة سَلّام الذي بنى قصر الحمراء، ليقف على أسرار اللعنة. لكن كيف يقابل شخصاً كان حياً يرزق قبل مئات السنين؟ هذا هو السرّ الحقيقي الكامن وراء شخصية سَلّام الذي تطرحه الرواية على أنه من بنى الحمراء منذ مئات السنين ويعيش بيننا حتى الآن. سلام هو في الحقيقة، الفكرة المناهضة للحروب والصراعات والاحتلال تحت أي مسمّى. في المقابل، نجد أنّ الأمير الذي لا يعرف سوى لغة المال، ومن التاريخ سوى الذي يبتسم له، يؤمن فقط بأنّ لكل شيء ثمناً، حتى التقى سَلّام الذي صدمه بالقول: «المال لا يشتري التاريخ أيّها الشيخ!» لكن أي تاريخ يرمي إليه الأمير المدلل؟ هل بناء قصر شبيه بالحمراء في الرياض، صناعة للتاريخ؟ الرمز الذي تطرحه فكرة امتلاك قصر الحمراء واستنساخه في بلد آخر، هو صورة لذلك السعي البشع للاستحواذ على التاريخ وصناعته بسلطة المال.
اللعنة والخوف منها دفعا بالأمير إلى البحث عن سَلّام. ترى ما شكل اللعنة تلك التي يخشاها الأمير عبد الرحمن؟ إنها القصر نفسه: «الحمراء ليس قصراً نفتخر به. إنّه وصمة عار». هكذا يفسر سَلّام فكرته عن القصر والتاريخ العربي في الأندلس. ثم يضيف مشيراً بحديثه إلى جرس الكنيسة الكبير الذي يعلو القصر: «عندما بُني القصر، لم يكن الإسلام قوياً في الأندلس. ومن أجل ذلك تمّ بناؤه كي يعكس قوة زائفة للإسلام... العلاقة بين القصر والجرس لا تزال قائمة على المبدأ ذاته حتى اليوم. إنّها تريد أن تقول لنا إنَّ الصدام بين المسيحية والإسلام الذي كان، لا يزال قائماً....». صحيح أنّ الصراع بين الأديان أقدم من عُمر الأندلس، لكن الأندلس في صراعاتها وخساراتها كانت النموذج الأسوأ لهذا الصراع، هذا ما يؤمن به سَلّام، الشخصية الممتدة بعمقها المعرفي بين الحاضر والماضي. إلا أن الأمير والشيخ، كلاهما وقع ضحية الراوي، الذي أغفل تماماً حقيقة تاريخية مهمة، هي أن أغلب الصراعات التي حدثت تحت غطاء الدين، كانت تدار من رجال السياسة وقادة الجيوش والعصابات السياسية المنظّمة.
النصيحة التي يقدّمها هاني نقشبندي إلى القارئ، هي تلك التي أسداها سَلّام إلى الأمير في نهاية اللقاء. نصيحة ترفض الإرهاب وتكرار الإرث الدامي وصراع الأديان... وقد جاءت بعدما وجّه الأمير سؤاله الغاضب إلى سَلّام: «هل أنت ضد أن يسعى المسلمون إلى نشر دينهم؟». فيرد سَلّام: «إن كنّا قد أخفقنا في نشر ديننا في بلد عشنا فيه تسعة قرون من المحبة والتسامح كما تقول! فهل ننجح اليوم بالقتل والعنف؟». رغم هذا، سنعلم بأنّ بناء القصر يجري على قدم وساق في مدينة الرياض، وبإشراف الأمير الذي لم يفهم كعادته أي إشارة من إشارات التاريخ.