النص الذي كتبه البولوني Slawomir Mrozek في السبعينيات، انبعث على الخشبة السوريّة (أسامة غنم/ سامر عمران)، حاملاً أسئلة الهويّة وتجربة المنفيّ داخل وطنه... وخارجه أيضاً
دمشق ــ خليل صويلح
تلك الليلة، كان علينا أن نبحث عن ملجأ، خلف مقبرة، في أزقة شارع بغداد، لمشاهدة عرض مسرحي يقام هناك. بدت الفكرة غريبة، إذ لم يعتد مسرحي سوري أن يغامر بتجربة مماثلة كما يفعل هنا سامر عمران. هكذا نزلنا درجاً قديماً يفضي إلى آخر، ثم إلى قاعة خاوية شبه مظلمة، تؤدي إلى أخرى. دلفنا من باب خشبي على إضاءة خافتة، كما لو كنّا نزور سجيناً في زنزانة منفردة: رجل بالبيجاما ممدّد على السرير، يقرأ كتاباً، ويستمع إلى موسيقى كلاسيكية. المكان ملجأ حقيقي في منطقة القزازين، وسط دمشق، اقترحته احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية» كأحد الفضاءات البديلة. حيطان عارية وسقف تتدلّى منه لمبة شاحبة، بين قضبان معدنية وأسلاك كهرباء مكشوفة، ومواسير معطّلة وسريرين خشبيين. لعلّها تشبه غرف التحقيق، فالرجل ـــ كما سنكتشف ـــ مثقف منفي، هرب من سلطة مستبدة، وأراد فضحها بتأليف كتاب عن العبودية الجديدة في بلاد تحوّل الكائن البشري إلى «قرد في زنزانة». سيقتحم المكان بعد لحظات، رجل بدين بلّله المطر. إنه شريك المثقف في الغرفة الباردة. عامل مهاجر ترك أسرته في قرية بعيدة بقصد تحسين وضعه. ما يجمع الشخصين أنهما من بلد واحد، وما عدا ذلك فهما على طرفي نقيض. العامل عاد للتو مبتهجاً من محطة القطار المركزية. إذ اعتاد الذهاب إلى هناك يوم إجازته لمشاهدة حركة البشر والنساء. وهو حين يخترع حكاية متخيّلة عن نزهته، سيطيحها جاره المثقف، ويرويها على نحوٍ مختلف، بعد أن يخلّصها من البهارات التي يضيفها العامل لتزيين حياته البائسة. هناك جحيم آخر يعيشه العامل يتعلق بعمله في إصلاح مواسير المياه، وتأثير ذلك على صحّته، لكنّه في الحقيقة، وصل إلى حالة من العبودية لا تسمح له بالاحتجاج على الظروف غير الإنسانية المحيطة به، إلى درجة البحث عن مبرّرات مقنعة لتناول معلّبات مخصصة للكلاب، ما دامت رخيصة! وهو ما وجد فيه المثقف صورة مثلى للعبودية المطلقة، والخنوع الكامل لسطوة المال، على أمل العودة إلى بلده لتشييد بيت لأسرته. المثقّف المندحر يجد تبريراً لعطالته وعزلته بأنّه بصدد تأليف كتاب عن شريكه في الغرفة بوصفه نموذجاً مثالياً لضحايا الخنوع. لذلك، يستدرجه إلى نقاش فلسفي عن الحرية والاستبداد السياسي في بلده الأصلي. وإذا بالعامل يستعيد خوفه القديم بدلاً من التخلّص منه، ويدافع عن نفسه باتّهام المثقف بالعطالة والهروب من العالم الحقيقي إلى الكتب.
نصّ «المهاجران» الذي كتبه البولوني سلافومير مروجيك في السبعينيات، كان ترجيعاً لمناخات الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، في ظل أنظمة شمولية، حوّلت البشر إلى فئران تجارب مستكينة لقدرها. لكنّ القراءة الراهنة للنص في لحظتنا المعاشة، تأخذ الحوار الذي كتبه الدراماتورج (والزميل) أسامة غنم بالعامية السورية، وأخرجه سامر عمران، إلى مطارح أخرى، بمعانٍ تتلاءم مع معطيات العولمة والتغيّرات الجديدة لمعنى المهاجر أو المنفي داخل وطنه وخارجه، بغياب معنى الهوية. حتى إنّ العبث يقترب من منطقة بيكيت اللاذعة، وأحياناً يتماهى مع كابوسيّة كافكا.
ساعتان ونصف في ملجأ، وممثّلان يتبادلان الحديث كما لو أنّهما في بيتهما (سامر عمران ومحمد آل رشي) في يوم استثنائي هو ليلة رأس السنة. وحيدان في غربتهما القسرية، يسمعان أصوات صخب سكان البناية، من دون أن يهتم بهما أحد. أليسا تحت الأرض واقعاً ومجازاً؟ هكذا يحتدّ الحوار مع تبادل الأنخاب ويتفجّر على شكل اتهامات واعترافات وأمنيات متبادلة، ليصل إلى حد أن يفكر العامل بقتل المثقف في منتصف الليل قبل أن ينتهي إلى محاولة الانتحار وتمزيق النقود التي جمعها، حين يكتشف متأخراً هباء حياته ولا جدواها. سننسى أنّنا في عرض مسرحي، بوجود ممثّلين يشبهان تصرفاتنا لجهة الانفعال، وينطقان بعبارات سوقية وشوارعية لم نسمعها مرة واحدة على خشبة مسرح، ألسنا في سهرة شخصية؟ هنا لا مسرحية بالمعنى التقليدي، بل نصّ يتصاعد تدريجاً، ليكشف حياةً تثير الأسى، وأحلاماً انتهت إلى الفشل في مواجهة عبثية مع لحظة استبدادية طويلة، وبكاء مرير للمثقف في العتمة النهائية للعرض.


*حتى 30 الحالي، ملجأ القزازين، خلف مقبرة الدحداح (دمشق)
www.damascus.org.sy