الزير سالم والدكتور فاوست التقيا في مسرح «بابل» البيروتيبيار أبي صعب
يعود شكيب خوري إلى المسرح، بعد «خيانة» طالت مع الأدب أصدر خلالها روايته «الانطاكي» (٢٠٠٧ ــــ «مكتبة بيسان»)... وهذه العودة بحدّ ذاتها مناسبة للاحتفال! الفنّان الذي درس التمثيل ذات يوم مع بيتر أوتول أواسط الخمسينيات، في «الأكاديميّة الملكيّة لفنّ الدراما» (لندن)، قبل أن يواصل البحث في جامعة «باريس الثامنة» واضعاً أطروحته المرجعيّة عن «مسرح اللامعقول في العالم العربي»، هو من رموز العصر الذهبي للمسرح اللبناني. من «في انتظار غودو» (١٩٦٧) التي لبننها عن بيكيت مع عصام محفوظ، مروراً بـ «كاباريه» (١٩٧٣) فـ«زيارة المفتّش» (١٩٨٣)، وصولاً إلى «أرانب وقديسين» (١٩٨٩) التي أزعجت الإكليروس في لبنان الخارج من الحرب الأهليّة، فمنعتها الرقابة وختمت «مسرح بيروت» بالشمع الأحمر... وحتى آخر أعماله «موانئ الحنين» (١٩٩٩).
قرابة عقد كامل إذاً، بعيداً عن الخشبة التي خبرها ممثلاً من الطراز الأوّل، ومديراً للممثلين، وكاتباً ومخرجاً. شكيب لم يفقد شيئاً من مهاراته تلك ــ كما يمكن أن نتثبّت حاليّاً في «مسرح بابل» البيروتي (إدارة جواد الأسدي) ـــ رغم مرور السنوات الصعبة... سنوات الانهيار وإعادات النظر، وانحسار جيل الروّاد ومعه نوع معيّن من المسرح اللبناني، حلّت مكانه تدريجاً أشكال وقوالب وأسئلة أخرى تعلن موت الماضي القريب، أو انتقاله إلى المتاحف والمحترفات الأكاديميّةكلا، هذا الجيل لم ينحسر تماماً، مثلما مسرح السبعينيات لم يمت، يأتي ليقول لنا شكيب خوري في عمله الجديد «الزير سالم ودكتور فاوست». وهو احتفال مشهدي ــــ فلسفي كتبه لممثّل وممثّلة، وأخرجه فوق خشبة شبه عارية، أشبه بحلبة صراع. الدكتور فاوست يعود ألف عام إلى الوراء، ليزور الزير سالم في صومعته، باحثاً عن تلك الثوابت التي تجمع بين الخوارج على امتداد العصور، أولئك الذين وقفوا ضد السائد، ضدّ الخطاب المهيمن، ضد منطق الجماعة باسم مثل تقدميّة وتنويرية، عقلانيّة ومتمرّدة. فاوست حاربه معاصروه، خافوا من علمه واتهموه بالشعوذة، وأبو ليلى المهلهل الذي أضنته حرب البسوس (كابوس الحرب اللبنانيّة ليس بعيداً) يعيد النظر في ماضيه، وقوانين قبيلته. الأول أخذ «مأذونيّة» ٢٤ ساعة من الشيطان (تعرفون حكاية فاوست وميفيستو)، وجاء من القرن السادس عشر الألماني، إلى القرن السادس لزيارة الزير سالم في بئر السبع، حيث مضارب بني تغلب عند تخوم الجاهليّة.
لكن المواجهة بين «الجرماني» و«التغلبي» تتفكّك أمامنا تدريجاً، مع تطوّر الحركة الدراميّة. تسقط الأقنعة... فإذا بنا أمام رجل وامرأة الآن وهنا، أي في لبنان بعد الحرب، منعزلين في شرنقة حياتهما... رازحين تحت عبء ماضيهما، يستسلمان لهذه اللعبة التنكرية من أجل خداع الوقت والالتفاف على الواقع المأزوم الذي يجعل التواصل صعباً.
هناك أيضاً المخزون المعرفي والمرجعيّة الخصبة التي تقوم عليها المسرحيّة. الزير سالم مناسبة لاستحضار الكاتب المسرحي المصري الراحل ألفرد فرج في المسرح، والشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان مع المخرج حاتم علي في الدراما التلفزيونيّة، و... الشاعر المصري الراحل أمل دنقل في الشعر. ألم يستوح الأخير إحدى أشهر قصائده من القصيدة الوصيّة التي تركها كليب القتيل إلى أخيه الزير سالم (لا تصالح!)؟ الزير سالم الذي أعاد المسرحي الفلسطيني جورج ابراهيم تقديمه أخيراً في رام الله، في اقتباس جديد، كان المسرحي السوري رمزي شقير أيضاً قد جعله قبل سنوات يلتقي هاملت في دمشق وباريس. هذه المرّة يلتقي الزير الدكتور فاوستوس الذي ألهم كريستوفر مارلو (١٥٩٤)، واستوحاه غوته (١٧٩٠)، وقدّمه المعلّم البولوني جيرزي غروتوفسكي خلال السبعينيات في قراءة طقوسيّة فريدة... وتكرّ سلسلة الإحالات التاريخيّة والأدبيّة، مخزوناً فكرياً وجمالياً يغني مسرحيّة شكيب خوري التي تؤكّد على وحدة الحضارة البشريّة، ويعطيها بعدها المركّب...
نحن هنا أمام نوع مسرحي طالما أحبّه هذا المخرج، وبنى عليه رؤيته للعالم، جامعاً بين التأمل الروحاني وتكثيف الأزمنة وتمرّد الجسد، والأسئلة الوجوديّة والمشاغل الحسيّة والدنيويّة. هذه المرّة يغرف خوري من التاريخ، تاريخ الأفكار وتاريخ الأدب والمسرح على السواء، ليعيد صياغة نظرته إلى العالم، على أساس ثوابت أخلاقيّة لم تتغيّر طوال مسيرته الإبداعيّة: صراع الفرد ضدّ وصاية الجماعة، صراع المرأة ضد طغيان الرجل، إعادة النظر بالتاريخ البشري القائم على الحروب، على الديماغوجيّة والتوتاليتاريّة والاستغلال والمحافظة. نظرة طوباوية باختصار، سلميّة ونسويّة وتحرريّة ومتمرّدة. نجد أنفسنا عنوةً في قلب المسرح الذهني، نحتار في استحضار سارتر أو كامو. لكن لا، إذا كان لشكيب خوري من خليل، من صديق حميم لصيق بالتجربة الجديدة تحديداً، فهو بلا شكّ الكاتب الفرنسي الملعون جان جينيه. مسرحيّة «البلكون» تحديداً غير بعيدة، ونحن نتكلّم طبعاً عن قرابة روحيّة وجماليّة... لا أكثر!
الاحتفال الذي نشهده هنا، قائم على التنكّر وانتحال الشخصيّات حتى التماهي معها، ولعبة الأدوار التي تحمل نصّاً جدليّاً مثقلاً بالأسئلة الفكريّة ومسكوناً بالشعر في الوقت نفسه... كل ذلك ضمن بنية طقوسيّة تختلط فيها القداسة والدنس، الفكر المجرّد والواقع الفجّ... في هذا الكرنفال المجازي، القائم على التنكّر، هناك كتابة إخراجيّة متينة قادرة على حمل الحوارات الدسمة، الصعبة، الحافلة بإحالات فكريّة وتاريخيّة، ناهيك بأهميّة مساهمة الممثّل في تطويع الأفكار وترويضها وتجسيدها فعلاً حسيّاً ملموساً. عناصر هذا الاحتفال الطقوسي متعددة: الكلام، الإيماء، الأداء، النص، استعمال الفضاء، الاكسسوارات والملابس، الأثاث ورسمة جدار العمق، الشموع والسوط، الصمت والفراغ والظلمة واللغة الحركيّة...
إنّه شكيب خوري الذي نعرفه، وريث تاريخ مسرحي كامل... يستعيد طقوساً سادو ـــ مازوشيّة هنا، وملامح مسرح العبث هناك، ليبني احتفاله القاسي والصعب الذي لا يرحم المشاهد، بل يتطلّب منه تفاعلاً تاماً متواصلاً، وإصغاءً مطلقاً. وهنا يأتي دور الممثلين: سليم علاء الدين (الزير/ الزوج) ويارا بو نصّار (فاوست/ الزوجة) اللذين يقوم عليهما العرض. لا بد للكلمات المجرّدة من أن تعبر الجسد وتخرج منه شحنات كهربائيّة وموسيقى داخليّة. يقوم كل من الممثلين الشابين بدوره في أداء «تقاسيم» شكيب خوري ضمن دويتو متماسك.
سليم علاء الدين آت من تجارب مع المغربي رحيم عصري (بلجيكا) واللبنانيّة جنى الحسن. وهو هنا حاضر بخفوته وامحائه وأدائه التصاعدي إلى ذروة شعوريّة. أما يارا بو نصّار التي صفقنا لها في مسرحيّة «حمّام عمومي» مع عايدة صبرا... فإننا نعيد اكتشافها هنا ممثلة من الطراز الرفيع. بحضورها المرهف والقوي في آن واحد، بقدرتها على التلوين واستيعاب النص المجرّد ونقله عبر أحاسيسها، والانتقال بين المقامات والحالات: من رجل إلى امرأة، من يقين إلى شك، من تقشّف إلى غواية، من جدية إلى خفة تكاد تلامس الكوميديا... تبدو ماهرة في تلوّن الصوت والمشاعر، وخفة الجسد وليونته وبلاغة الحركات التي توحي بالكابوكي أحياناً. رشاقتها وقامتها الطويلة تذكّران بطيف والدها جوزيف بو نصّار، أحد أكبر ممثلي جيله عربيّاً... لكنّها ستمضي على الأرجح إلى أماكن أبعد في المستقبل. لو لم يبقَ سوى سبب واحد لمشاهدة مسرحيّة شكيب خوري الجديدة «الزير سالم ودكتور فاوست»، فهو اكتشاف ممثّلة اسمها يارا بو نصّار.


حتى 6 كانون الأول (ديسمبر) المقبل ـ مسرح «بابل» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/744034