حسين بن حمزة
استضاف مسرح «مونو» أخيراً عرض The Moebius Strip للكوريغراف السويسري جيل جوبان (1964)، المصنّف بين أبرز أبناء جيله في أوروبا. بدأ جوبان عمله راقصاً، قبل أن يستقلّ بعروض خاصة طاف بها مهرجانات كثيرة وحصد جوائز عديدة. العرض الذي شاهدناه، قُدّم أول مرة في باريس قبل سبع سنوات، ويقوم على فكرة الموت والفناء، لكنّ الموت غير حاضر مباشرة. إنّه مستتر ومخفي مثل معظم التفاصيل الأخرى في شغل هذا المصمم الذي يميل إلى التأمل الفلسفي والتجريد الذهني والصمت. العرض نفسه خالٍ من الثرثرة الجسمانية الصاخبة. إنّه رقص بلا رقص. الرقص يدور داخل العضلات وتحت الجلد.
ما يجعل العرض أكثر صمتاً هو أنّ الراقصين الخمسة لا يكترثون بالجمهور. إنّهم يرقصون لأنفسهم. العرض لا يتحدث مع مشاهديه، والأهم أنّه لا يجيب على توقعاتهم التقليدية. حين يخلع الراقصون سراويلهم لا يتحول ذلك إلى استعراض. وحين يختمون العرض برصف صفحات بيضاء على كامل مساحة الخشبة، لا يقومون بتطييرها أو نثرها على المتفرجين. لو فعلوا ذلك لابتذلوا العرض كلّه.
الراقصون يبدأون من لحظة استرخاء وليونة، ويطوّرونها إلى حوارات جسدية غير مفسّرة. التطوير لا يزحزح الأجساد إلى طورٍ أعلى أو أكثر جلبة، بل يكثّفها ويُظهر العرض كاستعارة كبرى تحجب في طياتها تموجاتٍ لمعانٍ كثيرة. ولأنّ العرض منطوٍ على ذاته، فهو لا يكشف هذه المعاني. نادراً ما يسرد جيل جوبان قصصاً مفهومة وسهلة. التركيز العالي والنقي على النواة الأساسية للعرض يقرِّب عمله من الشعر حين يكون الشعر نوعاً من العزلة وسوء الفهم مع العالم. كل شيء مستتر هنا. يصعب علينا أن نجاري ما نراه، أو أن نؤلِّفه مع الراقصين في لحظات تأليفهم له. يُدخلنا جوبان في عالم تجريدي منفَّذ بأجساد أشخاص حقيقيين، وينجح في نقل العدوى إلينا، فنستمتع ببعض بصماته الخاصة على فن الكوريغراف، وخصوصاً في المقطع الذي يعمل فيه أربعة راقصين على توفير انتقال الخامس في أرجاء الخشبة من دون أن يلامس أرضيتها، فتتحول الحركة إلى ملامسات اضطرارية شديدة العذوبة والتأثير. وهو ما يحدث – وإن بدرجة أقل – حين يُستبدل الانتقال فوق الأجساد بالمرور تحتها. لا يسهِّل جيل جوبان تحديد هوية عمله علينا. باستطاعتنا أن نقول إنه رقص ضد الرقص، ولكن هذا التوصيف بات قديماً بدوره. الرقص ـ بحسب جوبان ـ يختلط بمواد ومكونات قد تكون متنافرة. أحياناً، يخطر للمشاهد أنّه يرى تجهيزاً، لكنه تجهيزٌ حيّ هذه المرة، ويدوم نصف 40 دقيقة فقط. ضيفنا السويسري يفضِّل أن يطرح علينا أسئلة شاقة وكثيرة، ويحذّرنا من الإجابات الجاهزة.