يعيد الباحث جوزف مسعد قراءة التصنيفات الجنسيّة التي ترتبط بالمجتمع الغربي، مستخلصاً أنّ تعميمها ما هو إلا جزء من الخطاب الاستعماري في وجهه الجديد
أحمد ضياء
في أحدث كتبه «عرب راغبون» Desiring Arabs (شيكاغو بريس)، يعيد جوزف مسعد قراءة تصنيفات الجنسانية ليرينا كيف أنّها ترتبط بالمجتمع الغربي في فترة تاريخية معينة، وبالتالي فإنّ تعميمها هو جزء من الخطاب الاستعماري. ويرينا الكثير من النصوص («الاستعمارية» والعربية على حد سواء) التي تعيد إنتاج الصور والتصنيفات الجنسية الاستعمارية. بداية، يخلص مسعد إلى أنّ الخطاب الناشئ حول حقوق المثليّين هو خطاب يقوم بإيجاد وتعريف المجموعة «المثلية» كنقيض للمجموعة «المستقيمة»، ويؤدي بالتالي إلى تعريف هذه المجموعة وتعريضها للقمع (على عكس المقصود منها). ويخلص مسعد ــــ من خلال تحليل تاريخي وفلسفي مفصّل ومعقّد ــــ إلى أنّ هذه الثنائية خاصة بالتجربة الغربية، وأن عولمة هذه التجربة هي جزء من بناء التعالي الاستعماري. ويعطينا مسعد الكثير من الأمثلة على هذا، مثل لوم الغربي للعربي بسبب تساهل هذا الأخير في مواضيع الجنس، والعلاقات بين الجنس الواحد في مطلع الحقبة الاستعمارية، ثم لومه العربي بعد فترة قصيرة بسبب ممارسته القمع الجنسي واضطهاده لحقوق «المثليين». كما يضرب مثلاً صورة المستعمِر المُذَكَّر والمستعمَر المؤنث المعرّض لـ«الاختراق». إذ يقوم الاختراق العسكري والسياسي بتمثيل الاختراق الجنسي، مدلّلاً على ذلك بكثير من الأحداث، مثل التعذيب الجنسي للمعتقلين في أبو غريب حيث جرى «تذكير» المستعمِر ـــ حتى وإن كان امرأة ـــ وتأنيث المُستَعمَر. كما يرينا مسعد كيف أن من بين أسباب هذا «التجنيس» المتعمَّد، هناك الصور الاستشراقية التي تفرض تصانيف جنسية معينة وتتصرّف على أساسها.
ليس الغرض من هذا العرض (المختزل) تقديم كتاب مسعد، بل تقديم قراءة مسعد في عمله الجديد للمسرحية الشهيرة «طقوس الإشارات والتحولات» لسعد الله ونوس. وهذه المسرحية بالذات تؤدي فيها الجنسانية دوراً أساسياً. فالشخصيات الأساسية تقدم من خلال جنوستها. علاقات القوى فيها قائمة على الجنسانية، وتنقلب بانقلاب العلاقات والأدوار الجنسية. لكن مسعد يشير إلى أنّ هذه الأدوار الجنسانية، كما وعي الشخصيات بهذه الأدوار، لا تقوم على الرؤية الاجتماعية العربية للأدوار الجنسانية في الحقبة التي تدور فيها أحداث المسرحية، لكن على تصانيف الأدوار الجنسانية كما بنتها الرؤية الاستعمارية.
وبينما يبدو ونوس مدافعاً عن الفردية، فإن مسعد يرى ــــ من خلال تحليله للمجتمع والمسرحية نفسها ــــ أنّ هذه الفردية لا تؤدي إلى تحرر، بل العكس أحياناً. إذ إنّ تصرفات شخصيّة «ألماسة» الفردية جلبت القمع والدمار على «كار» الغانيات بأسره، و«العفصة» عندما يصرّ على تعريف نفسه كلوطي لا يحرر نفسه، بل يعرّض نفسه للهلاك ويعرّض الآخرين للقمع (أي أولئك الذين كانوا يشاركونه الرغبة في الرجال من دون أن يعرّفوا أنفسهم للمجتمع كلوطيين). كأن ألماسة والعفصة هما جماعات الحقوق الجنسية التي تصرّ على تصنيف المجموعات الجنسية وتعريفها ثم إخراجها من الخصوصية إلى العلن، فتجلبان بذلك الخراب والاضطهاد للمجموعة (ويعطينا مسعد أمثلة على حدوث ذلك في مصر والأردن).
يبرز الباحث الفلسطيني هذه التناقضات وغيرها، ليرينا تناقض (وقصور) الخطاب الليبرالي الذي تبنّاه ونوس وغيره من «العلمانيين» العرب. لكنّ هذا التناقض يبدو مقصوداً. صحيح أن ونوس في مرحلة مبكرة تبنّى النقد الليبرالي العلماني التقليدي للمجتمعات العربية والإسلامية، إلا أنّه بدا في مسرحياته الأخيرة متسائلاً عن مفاهيمه ومتشككاً فيها. ولذلك، تبدو مسرحياته الثلاث الأخيرة («منمنمات تاريخية»، «الأيام المخمورة»، و«طقوس الإشارات والتحولات») مليئة بنوع من التناقضات التي نخالها مقصودة لإرباك القارئ، وربما لزعزعة ثقته بالأفكار المطروحة نفسها. و«الطقوس»، تحديداً، نص مربك بكل ما يحمله من شكوك، حتى كأنه يضع الحقيقة نفسها موضع الشك (عزت قائد الشرطة يتساءل إن كانت الحقيقة هي ما يراه، أم ما يجمع عليه الناس فيفتيه المفتي، أي إن الحقيقة في الإجماع). وربما يجد القارئ الليبرالي ــــ ومعه ونوس القديم ــــ في شخصيّتَي ألماسة والعفصة محرراً لتحديهما المجتمع وقيوده، فإن المسرحية كأنها حين تطرح هذه الرؤية تطرح حولها الشك أيضاً بعرض التوابع المدمر لأعمالهما، وبعرض قصة النقيب الذي اتجه إلى التصوف في موازاة طليقته التي اتجهت إلى الدعارة.
ويرى جوزف مسعد أن «هذه المسرحية تقدم، في أحسن تقدير، إجابات غير وافية، للأسئلة نفسها التي تطرحها». ولكن ربما كان هذا غرض ونوس من الأساس، إذ يقول ونوس في مقدمة المسرحية: «ما أتوخاه من هذا العمل، سواء نجحت أم أخفقت، هو إثارة أسئلة ومشكلات أعتقد أنها راهنة، ومتجددة أيضاً». لم يجب ونوس عن هذه الأسئلة إجابة وافية، لكن ربما كان هذا ما قصده.