بعد «لوموند»، جاء دور Le Canard Enchaîné. إحدى أعرق الصحف السياسية الفرنسية تعيشُ سلسلة من الفضائح، بعد صدور كتاب، يكشفُ أسراراً عن المطبوعة التي تُعدُّ مثالاً للاستقامة
باريس ـ عثمان تزغارت
غالباً ما تكون سلطة المال هي وسيلة الضغط الأبرز التي تحدّ من حرية وسائل الإعلام واستقلاليتها في الأنظمة الديموقراطية التي يتعذّر على السلطات فيها، التدخل بطريقة مباشرة للتضييق على وسائل الإعلام أو ممارسة الرقابة عليها. لذا تمثّل صحيفتا «لوموند» و«لو كانار أونشينيه» (Le Canard Enchaîné) الفرنسيتان نموذجاً فريداً من ناحية استقلاليتهما المالية. إذ إنهما مملوكتان فقط لمحرّريهما، في شكل شركات مساهمة محدودة. وفضلاً عن ذلك، تنفرد «لو كانار أونشينيه»، وهي أسبوعية سياسية ساخرة أطلقت على نفسها هذه التسمية التي تعني «البطّة المقيّدة»، من باب السخرية... بأنها مستقلة أيضاً حتى عن مصادر التمويل الإعلاني، ولا تستقي مصادر دخلها سوى من المبيعات. وهي بذلك تمثّل حالة استثنائية لا يوجد ما يماثلها في أيّ بلد غربي.
هذه الاستقلالية الكاملة جعلت من «لو كانار» مثالاً لاستقلالية الصحافة، ما جعلها تُلقّب بـ«جوهرة» الصحافة الفرنسية. كان ذلك هو الانطباع السائد طيلة عقود عن الصحيفة التي تأسّست عام 1915، لكن كتاباً صدر أخيراً للصحافيين كارل لاسكيه ولوران فالديغيه، تحت عنوان «لو كانار الحقيقية»، أثار ضجة مدوّية. إذ كشف معلومات مريبة تتعلق بغموض مصادر تمويل «لو كانار»، والصلات الخفية التي تربطها ببعض دوائر النفوذ السياسي.
ويأتي هذا الكتاب ليمثّل ضربةً قاسية لسمعة الصحافة في بلد فولتير، بعد الكتاب المدوّي الذي أصدره بيار بيان وفيليب كوهين، قبل أربع سنوات، عن صحيفة «لوموند»، تحت عنوان «الوجه الخفي للوموند».
خلال تحقيقهما بشأن مصادر تمويل «لو كانار»، اكتشف كارل لاسكيه ولوران فالديغيه أن ما تروّج له الصحيفة بأنها مملوكة لمحرّريها، لا يعدو أن يكون سوى «نصف الحقيقي» أو بالأحرى ثلثها. فهي (أي الصحيفة) تصدر بالفعل عن شركة مساهمة محدودة ذات رأسمال قدره مئة ألف يورو موزّع في شكل أسهم غير قابلة للبيع، يمتلكها صحافيّو الجريدة. وهي أسهم «غير تجارية»، أي إنها لا تدرّ على مالكيها أي فوائد، وتعد فقط ضمانة للاستقلالية المالية للصحيفة. لكن المحققَين اكتشفا أن «شركة المحرّرين» تلك لا تمثّل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، ذلك أن الشركة أنشئت كفرع لشركة أمّ هي «منشورات لومارشان»، لديها استثمارات مالية مختلفة، ويقدّر رقم أعمالها السنوي بنحو 6 ملايين يورو. وإلى جانب ذلك، أُسّست أيضاً جمعية غير نفعية، عام 1987، هي «جمعية أصدقاء لوكانار»، وتمثّل مصدر تمويل إضافياً للصحيفة، علماً أن الغموض يحيط بالشركة الأم وبالجمعية.
أما عن الاستقلالية السياسية التي ترفع الصحيفة شعارها، فيكشف الكتاب معلومات شديدة الغرابة، منها مثلاً، أن أحد مستشاري الرئيس ساركوزي، وهو بيار شارون، يملي أسبوعياً على «لو كانار» الخطوط العريضة لسلسلة المقالات الساخرة التي تُنشر تحت عنوان «يوميات كارلا ـ ب»! وكان القصد من ابتكار «يوميات كارلا ـ ب» تضمينها أسراراً عن كواليس الحياة السياسية في قصر الإليزيه. لكن السيدة الأولى سرعان ما أُغرمت بتلك اليوميات، وصارت تطلب من بيار شارون أسبوعياً ما تريد أن تتضمنه يومياتها، فيقوم الأخير بالاتصال بـ«لو كانار»، ليُملي على المحررين رغبات السيدة الأولى، إلى حد أن الأخيرة أصبحت تحرص، مساء كل ثلاثاء، على أن تقرأ بافتخار على مسامع زوجها الرئيس يومياتها في «لو كانار». كما أنها استقبلت على الغداء رسمياً في الإليزيه أحد محرري «اليوميات»، وهو جان ميشال تينار. ما يعدّ سابقة من جانب «لو كانار» التي تحرص على حيادية صحافيّيها.
ويكشفُ الكتاب أيضاً أن «لو كانار» ذات التوجهات اليسارية، أدّت دوراً بارزاً في ترجيح كفة الرئيس ساركوزي خلال حملة الانتخابات، وخصوصاً من خلال ما كانت تنشره في صفحتها الثانية المخصّصة لأخبار كواليس الحياة السياسية.
وهذه الممارسات ليست حديثة العهد، بل يضيء الكتاب على أسرار محرجة شابت مسار الصحيفة منذ عقود. ومنها، مثلاً ما نشرته من «أنصاف حقائق» عن تقاضي الرئيس الأسبق جيسكار ديستان رشى في شكل علب ألماس من دكتاتور أفريقيا الوسطى السابق بوكاسا. إذ جرى تفجير تلك «القنبلة» التي قضت على مستقبل ديستان السياسي، بإيعاز من منافسه... فرانسوا ميتران! كما تعمّدت طيلة أشهر تأخير نشر الملف الموثّق الذي جمعته عن تورط الوزير السابق في حكومة ديستان، موريس بابون، في إرسال آلاف اليهود الفرنسيين إلى المحرقة النازية. ثم نشرته، بالتوافق مع ميتران، خلال الأسبوع الفاصل بين دورتي انتخابات الرئاسة لعام 1981، ما مثَّل الرصاصة التي قضت على ديستان، ومهّدت لوصول ميتران إلى الحكم.