قراءات حديثة في نصوص التراثالرباط ـــ محمود عبد الغني
منذ كتابه «بيان شهرزاد، التشكلات النوعية لصور الليالي» والناقد شرف الدين ماجدولين يؤطر أسئلة نوعية وقلقة حول تراثنا السردي الذي يتبين مع الزمن أنّه كنز حقيقي يضمّ ــــ إضافةً إلى كنز الشعر ــــ كنوزاً حكائية: في الكلمات، في اللغة والرمز والرؤية. وشرف الدين (القارئ/ الناقد) يقيم الآن علاقة تأويلية مع هذه الكنوز المقروءة في كتابه «ترويض الحكاية» (الدار العربية للعلوم ـــ ناشرون) الذي فاز بجائزة المغرب لعام 2008.
حتى وقت قريب، كانت الثقافة العربية ترى أنّ الشعر العربي وحده الذي يمثّل ويلخص ذاتنا وهويتنا وتراثنا. «وهذا موقف صحيح إلى حد ما، ما دام الشعر هو ديوان العرب، وجامع أخبارهم ومستودع معارفهم...». لكن، ماذا عن الفنون الأخرى في تراثنا؟ في هذا السياق، يمكن اعتبار كتاب ماجدولين مجموعة تأملات وتحاليل لمتن نقدي مغربي، اشتغل على سياقات أدبية غائبة تنتمي كلها إلى زمن مضى: سعيد يقطين الذي اشتغل على التراث السردي. عبد الفتاح كيليطو الذي اقترن اسمه بالمقامات. فريد الزاهي وعمله على الصورة والجسد. نور الدين أفاية الذي درس الهوية والاختلاف، الذات والآخر. حسن بحراوي وانكبابه على التراث الشفوي. محمد مشبال واشتغاله على النادرة. وبذلك يؤدّي شرف الدين دوراً آخر في النقد العربي من خلال البحث عن أجوبة لأسئلة غير ظاهرة، هوياتية بالدرجة الأولى: «من نحن؟»، «من أين جئنا؟»، «إلى أين نذهبهذه الأسئلة التي أصبحت أكثر إلحاحاً في حياة الناس. ولو أردنا توسيع دائرة الباحثين العرب الذين شغلهم سؤال التراث الأدبي لتهنا وسط خزانة كاملة من الكتب: عبد الله إبراهيم، سعيد الغانمي، نادر كاظم، أمينة رشيد، عبد الله الغذامي، محسن جاسم الموسوي... وهي كلها محاورات مع الثقافة العربية القديمة من منظور حديث اطلع عليها شرف الدين وانطلق من بعضها لإنشاء قول نقدي مغاير. يضع يده هنا، على مادة تراثية صعبة ومركبة. لكنّ هذه التجربة يخوضها اليوم الروائيون العرب: هاني الراهب في «ألف ليلة وليلتان»، جمال الغيطاني في «الزيني بركات»، بنسالم حميش في «العلامة» و«هذا الأندلسي»، خيري الذهبي في «فخ الأسماء»، صنع الله إبراهيم في «العمامة والقبعة». وهذا التأثير يشمل الآداب الأوروبية قبل عصر النهضة. وهناك فرضيات حديثة تقول بتأثير المقامة في تطور قصص البيكاريسك (الشطار) الإسباني وكون الشعر الملحمي الإسباني قد استُمد من التراث البطولي للعرب.
ما استحوذ على اهتمام الباحث هو إبراز أهمية قراءة النص القديم من جانب النقد الحديث. هذه القراءة أصبحت أكثر استحواذاً على أسئلة النقد العربي الحديث. ومع هذا الاستحواذ، اكتسب النص القديم أهمية لم يحظَ بها في تاريخ النقد كله. فبدأ هذا التلقي الحديث يميل نحو إنشاء تلقٍّ هو بمثابة إعادة إنتاج وتصنيع للنص القديم من جديد. يبدو الباحث منذ البداية، ميالاً إلى نوع من القراءة للتراث العربي، وهنا يقف نموذج سعيد يقطين الذي درس المنجز السردي التراثي وقدم في كتابه «الكلام والخبر»، مقترحاً لبناء «معالم سردية بديلة تكون بمثابة مدخل لفهم تكوّن أنواع الخطاب السردي العربي القديم واستيعاب مبادئ أجناسه، وتجليات أنماطه».
طيلة هذا الفصل المخصّص ليقطين، يبرهن الباحث على يقظةٍ في تقدير جدارة يقطين في تثبيت السيرة الشعبية باعتبارها نوعاً سردياً له خصوصيته عن باقي الأنواع السردية العربية. وما أبرزه الباحث من قيمة منهجية أثناء دراسته المنجز النقدي ليقطين، يبرزه أيضاً أثناء مقاربته للمستويات النظرية لعبد الفتاح كيليطو الذي يختلف عن يقطين في كونه قد اشتغل على أخبار وسير ورحلات ومآثر سردية تراثية مختلفة. بينما حدّد يقطين لعمله حقلاً نوعياً في السرد القديم هو السيرة الشعبية، أو حسن بحراوي الذي ركز على الموروث السردي الشفوي في «حلقة رواة طنجة» مبرزاً قضاياه الفكرية والجمالية «بوصفه مزيجاً من النقد والسيرة والتاريخ الأدبي للنصوص الحكائية وروايتها ومدونيها، وانتخاباً لبعض نماذجها التمثيلية وتقديمها في هيئة سائغة للتداول العام». وبذلك، فكتاب حسن بحراوي، حسب البحث، هو تجربة نقدية أصيلة تعيد الاعتبار إلى الرواة الشعبيين والتعريف بإنتاجهم.
وأثناء دراسته لصورة الآخر، باعتبارها قضية معرفية اهتمت بها بعض أنساق الفكر الحديث، ركّز شرف الدين على نموذج نقدي حصره بالباحث المغربي محمد نور الدين افاية من خلال كتابه «الغرب المتخيل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط» واعتبره «إضافةً معرفية في مجال مراكمة «مضامين تراثية» لصور الآخر (الغربي تحديداً)، وخطوة أكاديمية عميقة في مجال تاريخ النظر العربي للغرباء المختلفين». وهي دراسة تتناول معيار «الصورة»، وهنا نجد العلاقة بالباحث المغربي فريد الزاهي في كتابه «الجسد والصورة والمقدس في الإسلام»، إذ ركز الزاهي على مفهوم الصورة. وقد خصص له شرف الدين فصل «معيار الصورة وحكاية الجسد». قبل أن ينتقل إلى الباحث محمد مشبال واشتغاله على «النادرة» الذي هو «منظومة من الإمكانات اللغوية والأسلوبية ذات الطبيعة المستقلة».