الشاعر والمنظّر البارز ثابت في هجائه الثقافة الإسلامية، يأخذ من المناخ السياسي العربي السائد مثالاً على أنّنا نعيش ثقافة حجابٍ له وجهان

نوال العلي
في كتابه الجديد «الكتاب، الخطاب، الحجاب» (دار الآداب)، سنجد أدونيس الثابت على هجائه للثقافة الإسلامية. إذ يناقش في الفصل الأول «النص والحقيقة» علاقة الحقيقة بالنص المقدس، ثم الحقيقة وما كان من أمرها مع السياسة في الفصل المعنون «السياسة والحقيقة». كما يضمّ الكتاب «شذرات» من مقالات ومقابلات متفرقة في السياق نفسه. هنا أدونيس هو ذاته كما عرفناه في كل مقالاته. سيسرّنا نحن القراء الضعاف القلب، أن نجد في مقالته «حول التجديد في الإسلام» التي يضمّها الكتاب، ما يبرّر لنا مدح هجّائنا الحصيف الذي قلب الثقافة العربية رأساً على عقب لـ «برج دبي» مثلاً، كما ورد في مقالة نشرت له الأسبوع الماضي في إحدى الصحف، فكاتب مثل أدونيس يُقرأ جُملةً وبمثابرة لأنّ كل ما يكتبه ليس إلا منظومة كاملة متسقة قلباً وقالباً، أو هكذا يعتقد القراء الضعاف القلب، أمثالنا.
يرى أدونيس في كتابه أنّ التجديد لغة «هو ما لا عهد لك به»، والحديث هو «نقيض القديم»، والحدوث هو «كون الشيء لم يكن»، ومحدثات الأمور في الدين هي البدع. وبهذا المعنى، فإن التجديد يناقض الدين لأنّ فيه خروجاً عن النص، أما الشعر، فإما أن «يكون تجديداً وإحداثاً أو لا يكون شيئاً». وبهذا المعنى أيضاً، يكون «برج دبي» شبيهاً بالشعر في أنّه إحداث وتجديد!
وأدونيس، أحد أهم المجددين في الشعر العربي الحديث، ربط تقنية الشعر بتقنية البرج لا بتمثال بوذا أو بمدينة البندقية مثلاً، وهذا أمر يفسّره كتابه الجديد. إذ يقول إنّ زمن الشعر هو زمن التغيّر والصيرورة، وزمن الدين هو زمن الأبدية واللاتغيّر. إذاً فإننا نعيش زمن دبي المتغير بلا هوادة. أليس هذا ما يعنيه أدونيس حقاً؟ يبرّر محبّ أدونيس لنفسه. في هذا المقال وبعض مما جاء في الكتاب، يجمل أدونيس رؤيته لأثر الديانات التوحيدية الثلاث على البشرية من خلال قراءة للتجربة التاريخية الملموسة التي يرى فيها إثباتاً أنّ «الإيمان بإله واحد لم يرتفع بأخلاق البشر»، بل إنّها جلبت على العالم وبال أنظمة العنف التي استمدت شكلها الواحد كصورة طبق الأصل مستخلفة للإله الواحد.
وينفي أدونيس أن يكون الحوار بين هذه الديانات ممكناً، إذ تنكر واحدتها الأخرى من خلال صورة الله في كل منها؛ فالله في اليهودية خاصٌ بشعبٍ خاص، وفي المسيحية قتيلٌ يفتدي بني البشر... أما الإسلام المنزّل «لخير أمةٍ أخرجت للناس»، فلا يختلف في ذلك عن اليهودية، فكيف يكون الحوار ممكناً؟
من هنا، يدعو الشاعر إلى إعادة النظر بل الخروج من هذه الرؤية الوحدانية للعالم، ذاهباً إلى مناقشة نوعٍ آخر من النفي، هو نفي المسلم من الإسلام نفسه، بفعل ثقافة تكفير كل من يحاجج في الحقيقة الدينية، والشاملة للحقائق الثقافية والاجتماعية والسياسية، حتى يوصف بأنّه «يكفر» لا «يفكّر»، تلك الثقافة التكفيرية تقود بالضرورة إلى ما يسميه أدونيس «ثقافة الاجتناب» أي اجتناب التفكير كي لا نصير إلى التكفير.
وإذا كان كفر الشيء يعني تغطيته وحجبه، فإن الثقافة الإسلامية بهذا الفعل وغيره «تحجب بعضها بعضاً». في موضع آخر، يزيد اليقين الأدونيسي بأن المناخ السياسي العربي السائد، بوصفه نتاج المناخ الديني السائد، يبرهن على أننا نعيش ثقافة حجابٍ له وجهان: «واحدٌ لواقع يبدو كأنّه غيب، وآخر لغيب يبدو كأنّه واقع». فلا دليل على وجود العربي في الثقافة العربية إلّا بقوله لا.
والـ«لا» تنفي وتقصي، لذلك لن يكون مستغرباً أن يعيش العربي، وخصوصاً المثقف، في «البيت/ المنفى» عنوان إحدى مقالات الكتاب، حيث يسائل الكاتب قارئه عن فهمه للانتماء إلى أرض وبيت. إذ يفترض أدونيس أنّ أساس البيت يتمثّل في «الحريّة، لا في المكان» ويشترط فيه الفنّ والصداقة والرحيل نحو الآخر بلا قيد «تلك هي الأسس التي لا «بيت»، لا «وطن» إلا بحضورها الخلّاق الحرّ». وبهذه الأسس التي وضعها أدونيس، يثبت لنا أنّنا نعيش في مخيمٍ عربيٍّ كبير، كلّنا في المنفى.