يعود رئيس تحرير «الحياة» إلى مرحلة إشكاليّة في تاريخنا القريب، أيّام كان خطف الطائرات صرخة قاسية في وجه الظلم. يتعقّب طيف وديع حداد، محاوراً جورج حبش وكارلوس وأنيس النقاش. «أسرار الصندوق الأسود» هو الحلقة الأخيرة من ثلاثيّة رصدت أبطالاً تراجيديين على المسرح العربي المعاصر
نقولا ناصيف
قد لا يكون «أسرار الصندوق الأسود» (دار الريس) آخر سلسلة رئيس تحرير «الحياة» الزميل غسّان شربل. هو حتى الآن أكمل ثلاثية. بعد «ذاكرة الاستخبارات» (2007) و«لعنة القصر» (2008)، يأتي «أسرار الصندوق الأسود» ليكرّس سرّ شربل مع الأسرار. يذهب إلى الرجال المجهولين والصامتين ويُخرجهم من العزلة، كي يعيدوا تدوين وقائع صنعها رجالها الحقيقيّون. سيكون الأمر صعباً أكثر مع مَن وصفهم في كتابه الثالث ـــ ومنحهم كالآخرين الصفة نفسها في الجزءين الأوّلين ـــ بأنّهم «رجال تدرّبوا على الحذر والشك والاحتراز».
في كلّ من هذه الثلاثية، اختار أربع شخصيات (جميل السيد، غابي لحود، جوني عبده ومحمود مطر ــــ ثم إلياس الهراوي، نبيه برّي، رفيق الحريري وميشال عون ــــ ثم وديع حداد، جورج حبش، كارلوس، وأنيس النقاش). ليس بينهم مَن كان صندوقاً أسود. بيد أنّ الأحداث التي قهرت معظمهم بتفاوت كبير جعلت خصومهم ينعتونهم كذلك. مَن قال إنّ التاريخ ليس صندوقاً معتماً، قاتماً عندما ينطوي على أسراره ويختفي وراء غموضه، ثم يمسي كسطح الماء عندما تنتهك أسراره تلك كي يروى ويصبح مكشوفاً يقينياً. في الظاهر، بدا كل منهم صندوقاً أسود... قبل أن يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من الثلاثية، ليتأكد أنّ بين هؤلاء مَن أراد أن يكون قدّيساً، أو مغامراً، أو مصلحاً، أو صانع تاريخ بلده أو أمّته حتى، أو ربما أيضاً مَن يريد الذهاب بتاريخ الأحداث إلى رواية مختلفة له.
سرّ هؤلاء جميعاً أنّهم لعبوا أدواراً أساسيّة في نزاعات كانت كبيرة تتخطّى قدراتهم ومواهبهم، ولم يسقطوا في بدايات اللعبة. سرّهم أنّهم طبعوا الصراعات بصورتهم بعدما مضى كل منهم في قدر مغاير للآخر. بينهم مَن قُتِل، ومَن سُجِن ومَن شاخ، ومَن مات من المرض، ومَن هاجر، ومَن أطفأ مجازفته بالوظيفة، ومَن استدرك اللعبة القاتلة قبل أن تطحنه.
الصندوق الأسود في الكتاب الجديد كان وديع حداد الذي أحاط بتجربته الثلاثة الآخرين، كارلوس والنقاش وحبش الذي التقاه سنوات قليلة قبل رحيله. أما «عرّاب الإرهاب»، مبتكر خطف الطائرات كإحدى «وسائل تقويض ركائر الاستراتيجيات الاقتصادية والبشرية والعسكرية لإسرائيل»، الذي رحل عام 1978، فرواه بعض معاونيه، وكذلك نجله كاشفاً جانباً من علاقة والده بنضاله والقضية الفلسطينية وتجربتي الأردن ولبنان، وفي مواجهة العرب والعالم، مستخلصاً نقلاً عنه أنّ «تجربة المقاومة في لبنان تضمّنت أخطاء بعضها قاتل». رفض حداد «تحويل المقاومة إلى ما يشبه الجيوش النظامية».
من الصفحات الأولى، كان جليّاً أن الكتاب هو عن حداد، تجربة شخصية استثنائية قدّمت نموذجاً خاصاً ـــ استثنائياً كذلك ـــ ليس في أسلوب للنضال فحسب، بل أيضاً في تبريره كحق مشروع عندما «يضطر الأضعف إلى استخدام أساليب غير تقليدية في الردّ لأن الآخر يسحقه ولا يترك له أي خيار».
وخلافاً لـ«ذاكرة الاستخبارات» و«لعنة القصر» اللذين تحدّثا عن حقبتين دارت في خضمّهما الشخصيات التي حاورها شربل، واضطلعت بأدوار مؤثرة في مسارها، قدّم «أسرار الصندوق الأسود» رواية مختلفة تماماً. وقائع وأحداث تدور حول شخصية واحدة محاطة بشهود مباشرين ككارلوس والنقاش وحبش رفيق نضاله مذ بدآ باكراً في كلية الطب في الجامعة الأميركية حتى افتراقهما عام 1976، وشهود غير مباشرين كنجل حداد وآخرين، اختصر المؤلف هويّاتهم بـ«المتحدث»، كي يرووا نمطاً مختلفاً لرجال صنعوا تحوّلات استثنائية لما عُرف من خلالهم «إمبراطورية إرهابية». ومع أنّ الكتاب لم يظلم المتحدثين هؤلاء، إذ أسهبوا في تجربتهم الشخصية والمشتركة، إلا أنّهم لم يكونوا هم الفكرة والمذهب الذي رمى إليه شربل مذ قدّم في الصفحات الأولى ملامح سيرة حداد الذي «رسم كل تفاصيل حياته في ضوء الهدف الذي نذر نفسه للعمل من أجل تحقيقه. اختار طريقه باكراً ومشى فيها إلى النهاية». هكذا أمكن سبر أدوار حبش وكارلوس والنقاش في دائرة حداد، وفي ذواتهم، وقد اختلط الإخفاق بالنجاح والنضال بالسجن، وهم يسردون المراحل ويقدّمون فلسفة إرهاب عُدّ حينذاك صرخة قاسية في وجه الظلم ومحاولة لإحداث وعي جماعي في العالم وخلخلة أنظمة، قبل أن يُمسي بعد 11 أيلول 2001 قتلاً جماعياً مجردّاً من الرسالة. كان الإرهاب ردّ فعل على ظلم مستمر، لا فعل قتل وإبادة.
يروي الكتاب خطط خطف الطائرات وتفجيرها منذ عام 1968 عندما أضحت هذه أول أسلوب مباشر لإحداث هذا الوعي الجماعي الجديد، حيال مصير شعب نازف. كان يمكن إدراكه بخوف أكبر عندما يكون الحدث عالقاً بين السماء والأرض، وخصوصاً عندما يبرّر حداد لرئيس الاستخبارات السوفياتية يوري أندروبوف عام 1974 تعلّقه بفلسطين: «بلادنا واحدة لا تتجزأ، ولن نفكّر يوماً في قيام دولتين. دولتنا هي فلسطين وهي اليوم محتلّة، ومن حقّ الشعب الفلسطيني أن يناضل لتحرير أرضه وإنشاء دولته على كامل أرضه. يمكن أن نتعايش مع اليهود، لكن في فلسطين». قرّر «كسر قواعد اللعبة التي يقوم عليها الصراع بين الشعب الفلسطيني وأعدائه»، وأن «تختار الضحية أسلوب المواجهة بالطريقة التي تريدها هي، والتي تكون من مصلحتها هي، وتحديد موقع المواجهة ومكانها وتوقيتها (...) الضرب الموجّه والشديد التركيز على نقاط الضعف لا على نقاط قوة الخصم (...) إقلاق راحة المحتل ومنعه من الاستقرار وإبقاؤه محاصراً».
لكن الوجه الآخر للكتاب أنّه قدم من داخل سيرة حداد، سيرة المرحلة تلك بأبطالها المعلنين والمغمورين في استعادة وقائع طويت وأسماء ابتلعها النسيان. قدّم أيضاً سير أصدقائه ومعاونيه هؤلاء، وأخصّهم كارلوس في حوار مثير من وراء قضبان سجنه الفرنسي («لاسنتيه») عبر محاميته، ناهيك عن رسائله وأهمّها روايته احتجاز وزراء النفط (أوبك) في فيينا عام 1975، وسرّ النقاش مساعداً رئيسياً في تلك العملية لم تكتشفه الاستخبارات الفرنسية عندما كان الرجل سجينها. تفاصيل متشعبة في نظرتهم إلى مهماتهم تلك، وطرائق تفكيرهم وأسلوب عملهم ومغازي مجازفاتهم ومغامراتهم، أضف أسماء لم تتبيّن آنذاك أدوارها ككمال خير بك وأبو جهاد وميشال مكربل وفؤاد عوض وأبو حسن سلامة. كان كل من هؤلاء كتاباً في قلب الكتاب.