الأدب السعودي الذي يثير اهتماماً متزايداً، هل هو مجرّد محاولات ذات طابع امتصاصي تلهث وراء الحدث؟ في «نهاية التاريخ الشفوي»، يربط الناقد محمد العبّاس الطفرة الروائية في بلاده بالتحوّلات التي طرأت على المملكة في زمن العولمة
خليل صويلح
يربط محمد العباس في كتابه «نهاية التاريخ الشفوي» (دار الانتشار العربي)، الطفرة الروائية في السعودية بالتحوّلات الجديدة التي طرأت على المملكة بفعل العولمة، والتمدين، والتمرد الاجتماعي على الهوية المركزية المفروضة من نسق أعلى، وانكشافه الصريح أمام بؤس الواقع، ومزاعم الشعارات، ووهن الإيديولوجيا وتهاوي المركب القبلي والطائفي. هكذا راحت الكتابات الروائية الجديدة تخلخل المرويات الشفوية نحو ما هو مكتوب ومعلن، بالانشقاق على مركزية النسق ورفض الهوية الضيّقة بتجاوز سكونيّة مركبات الموروث الثقافي الفولكلورية على الإقرار بالتكامل التعددي عبر الفردي: «انفجرت بنية الصمت، وقررت ذوات كانت تبدو مجبولة على الامتثال ومجتمع موصوم بالخرس المزمن، أن يُروى، في ما يبدو انهياراً مبيّتاً وحتمياً للحاجز القائم بين الشفاهي والمكتوب». هذه الطفرة الكمية وفقاً لما يقوله العباس لم تتبلور نصاً روائياً مكتملاً ومشبعاً سردياً، بل هي محاولات ذات طابع امتصاصي تلهث وراء الحدث في المقام الأول. وهو ما يفسّر غياب المرجعيّة السوسيولوجية المتبلورة، وتمثّل معظم تلك التجارب ــــ في ضرباتها الأولى ـــ سيراً ذاتية مموهة، و«لقطات بيوغرافية مستعادة من الذاكرة، لا ترسم ذلك الخطّ العمودي داخل التاريخ». وبالتالي، فهي لا تؤسس الكتابة الروائية على مبدأ التجاوز، بل كمدوّنة شخصية معادلة للتاريخ المكتوب وممر لتحقيق الفردانية، من دون أن تغادر ترسّبات التاريخ الشفوي ورهاباته المزمنة. كل ذلك أدخل معظم الروايات في ما رآه فيليب لوغون «خطيئة سيرية»، وأفقد المتخيّل الروائي سمة التجانس، ليس مع ميثاق السيرة فحسب، بل مع البنية الروائية من أساسها، وذلك «نتيجة المغالاة في التمويه والرغبة الواعية واللاواعية ربما للتأريخ». وينفي العباس وجود رواية محلّية صادمة تنهض على الإفضاء، وذلك نتيجة غياب فعل المكاشفة، وازدراء أدب اليوميات بما هو المضخة الأهم في تكوين الوعي الروائي، حيث تُشَيَّد «الأنا» كوحدة تتكوّن بموجبها البنى المركبة للتشكيلة الاجتماعية.
ويلاحظ الباحث أن القفز من صيغ المشافهة إلى أفق الكتابة الإبداعية وتوسيع دائرة التجريب، بقدر ما كان ضرورة لإنهاء التاريخ الشفوي، أدى في المقابل إلى التنصيص التسجيلي الساذج للواقع، وإلى شيء من التطرف الحداثي. إذ تتسم بعض الروايات بحداثة متطرفة تختزن في جوهرها انفتاحاً أقل، وحذراً أكبر... وبدت مجرد «فضالة حداثوية متأتية من يوتوبيا الاعتقادات ومشاكلة اللعبة اللغوية لفكرة الحداثة». وهو ما أَفقد هذه الروايات فاعليتها، لأنّها ما زالت تُكتَب بدافع نزقي، لا تحت مظلة فلسفية. وإذا بها كتابة نوستالجية، متخثرة، مهمومة بتفسير اللحظة لا التوغّل في داخلها. وهذه كما يرى العباس سمة الأدب المقهور، الارتكاسي، الرثائي. الأدب الذي يلهج بالأشياء المستحيلة والوعود المنكوث بها، فهو نتاج بنية خوف وارتباك ومراودات حذرة للحضور... فيما يغيب النص التدميري الذي يفتح الذاكرة والأنا على أقصاها.
المقدمة النقدية للكتاب سعت لأن تكون مروحة واسعة للتجوال بين 15 نصاً روائياً، يعتقد الناقد السعودي أنها تمثّل مأزق الرواية المحلية من جهة، وهويتها الجديدة من جهة أخرى، عبر استكشاف مناخات سردية، أسّس لها أحمد دهمان في «الحزام»، مروراً بأعمال لرجاء عالم («ستر»)، ومحمد حسن علوان («سقف الكفاية»)، وليلى الجهني («الفردوس اليباب») ويوسف المحيميد («القارورة») ورجاء الصانع («بنات الرياض») وانتهاء بصبا الحرز («الآخرون»). هذه الروايات رسمت مسارات قروية في مواجهة مدينة ــــ هي الرياض هنا ــــ تفرض سطوتها على الفعل الروائي بمقاربات شعرية للمكان... وإذا بها «مدينة ملعونة»، تفتك بعفّة القرية وشعريّة تداعياتها، وتقوّض الحاجز بين المضمر وما أُعلِن سردياً بفعل «الصاعق الحداثي».
ويلفت العبّاس أخيراً إلى أنّ الفعل الروائي لدى معظم هؤلاء الروائيين بقي برّانياً، ولم يشتبك مع الحداثة المدينية بعمق إلا من خلال جرعات عاطفية آنية، ومونولوجات طللية، وتأنيث للوجع في نصوص الكاتبات، وسرد غنائي ريفي في مدوّنات أخرى... بقصد «تجاوز اللحظة الشفهية بتحريك مكامن المسكوت عنه، المحكي ضمناً، أو الراكد»، عن طريق الانقلاب على «زمن الكليات المغلقة»، والانتماء إلى «زمن الخصوصيات المفتوحة».