ربع قرن من الدفاع عن الحريات

«يجب أن تعرف متى وكيف تغادر». هكذا يعلّل سبب تخلّيه عن رئاسة «مراسلون بلا حدود». لكنَّ الناشط الخمسيني لا يعترف بالإجازات، بل سيمضي قدماً في معاركه النضاليّة، وينصرف إلى «مشاريع قديمة»، قد تبدأ من بيروت...

صباح أيوب
في 7 نيسان (أبريل) الماضي، اختفى الأمين العام لمنظّمة «مراسلون بلا حدود» روبير مينار، ولم يبلِّغ أحداً عن سبب تغيُّبه عن عمله. وفيما شُغل زملاؤه بالتفتيش عنه، ظهر فجأةً على قبّة كاتدرائية «نوتر دام دو باري»، يسدل ملصقاً أسود وعلماً ضخماً للتيبت، داعياً إلى مقاطعة الألعاب الأولمبية في بكين! ومن راقب مينار (55 عاماً) في الأشهر الأخيرة الماضية، وهو يشارك في التظاهرات ويرفع الشعارات ويملأ الشاشات... يصعب عليه توقّع أنّ هذا الرجل سيترك مهمّاته كأمين عام للمنظمة العالمية، وأنه سيتنحّى عن منصبه في القريب العاجل.
لكنّ الرجل الحماسي ذا الأصول الجزائرية، غادر «مراسلون بلا حدود» التي أسسها منذ ثلاثة وعشرين عاماً (عام 1985)، مع لقب «رئيس فخري»، وأرشيف دسم بالإنجازات والحملات والمواقف المدافعة عن حقوق الصحافيين حول العالم.
«يجب أن تعرف كيف تغادر ومتى»، يبدأ مينار حديثه مع «الأخبار»، معلّقاً على توقيت تخلّيه عن منصبه أخيراً. ويوضح: «المنظمة بأحسن أحوالها، على الصعيدين المادي والمعنوي. إضافةً إلى وجود شبكة ناشطين كافية حول العالم... وأنا، لن أمضي عمري كلّه في المنظمة. آن الأوان لأغادر منصبي وأسمح لآخرين بإدراة المشروع، وهذا هو الوقت المثالي». ثم يستدرك: «غادرت المنظّمة، لكني لم أترك العمل النضالي من أجل الحرية وحقوق الإنسان». وفيما يعترف بـ«تمزّق داخلي» لأنه ترك «طفلته» («مراسلون بلا حدود»)، يؤكّد أنه سيكمل المسيرة «إنما بطرق مختلفة». كيف؟ هناك «مئات الأفكار حول مشاريع للمستقبل القريب، تتعلّق بقضايا الإنسان المحقّة والحريّات». كما سينصرف إلى تطوير مشاريع قديمة، كان قد أهملها لانشغاله في أعمال المنظمة. إذاً لا عطلة لمينار، «أنا أكره الإجازات» يقول من دون تردّد. ويؤكد: «حياتي هي في العمل اليومي الناشط من أجل قضية محقّة».
وهنا، يفصح أنه لن يغيب عن منطقة الشرق الأوسط وعن لبنان تحديداً: «هناك تخطيط للتعاون مع «مؤسسة سمير قصير» مثلاً». أما عن منطقة الشرق الأوسط ولبنان وتجربته فيهما، فيعلّق بكلمتين: «هي الأصعب». ويُرجع الصعوبة في التعامل مع المنطقة إلى ثلاثة أسباب، أوّلها «أنظمة ديكتاتورية لا تزال تحكم أغلبية البلدان»، ثم العنف الذي يُرتكب بحق الصحافيين «كما يحدث في العراق» وثالثاً عدم التحلّي بالوعي الكامل والفهم لبعض الأحداث «وخصوصاً لدى الصحافيين أنفسهم».
وماذا يقصد بهذه النقطة الأخيرة؟ يوضح أنّ بعض صحافيي المنطقة «غير مدركين تماماً لطريقة التفكير الغربية ومدى اختلافها عن تفكيرهم». والمثال على ذلك «ردّ الفعل الذي نشأ إثر أحداث الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية». لكن، وعلى رغم كل الأجواء القاتمة، يبدي الناشط الخمسيني «تفاؤلاً بوضع المنطقة». ويعزو ذلك إلى «نشوء منظمات ومراصد ومؤسسات مستقلّة تعنى بحقوق الإنسان وتدافع عن حرية الصحافة»، ويعود ليسمّي «مؤسسة سمير قصير»، مؤكداً أنها، هي من بين المؤسسات التي «تعدّ مستقلّة في عملها». ومينار يعوّل على «المؤسسات المستقلّة»، ولا ينفي احتمال التعاون معها في مشاريع مستقبلية تبدأ بـ«تغيير القوانين المعمول بها حالياً».
وكان مينار، منذ انطلاق «مراسلون بلا حدود»، قد تعرَّض لجملة انتقادات، طالت طريقة تعاطيه مع قضايا تتعلّق بحرية الصحافيين وحقوق الإنسان. إذ شكّك بعضهم في تمويل المنظمة، وادّعوا أنّ «وكالة الاستخبارات الأميركية» CIA هي التي تقف وراء تأسيسها. فيما انتقد آخرون تأييده لجهات متنازعة في بلدان معيّنة، وغضّ الطرف أحياناً عن تجاوزات الولايات المتحدة الأميركية.
أما بالنسبة إلى تجربته السابقة في منطقة الشرق الأوسط فكانت حاضرة، لكنها لم تكن فاعلة. واهتمامه بالقضايا اللبنانية أخيراً لا يمكن تجاهله، علماً أن حساسية الوضع المحلّي ودقّته أوقعتا الرئيس الحماسي أحياناً في بعض الفخاخ. فهل هو مقتنع فعلياً بأنه ـــ يوم كان على رأس منظمته ـــ استطاع أن يحدث تغييراً في سياسة المنطقة ووضع الحريات فيها؟ وهل جاء اهتمامه بالقضايا اللبنانية في الفترة الأخيرة، مثمراً؟ يأتي الجواب صريحاً وفجّاً: «السياسة في لبنان معقّدة جداً... حاولت في البداية فهمها والتعامل معها. لكنّني لم أفلح، فاستسلمت»!
السياسة اللبنانية «أحبطت» إذاً الرئيس السابق للمنظمة الدولية، فهل سينجح خليفته (راجع البرواز) في اجتياز حقل الألغام؟


جان فرانسوا جوليار

جان فرانسوا جوليار (35 عاماً) هو خَلَف روبير مينار لمنصب الأمين العام لمنظمة «مراسلون بلا حدود». انضمَّ إلى المنظمة عام 1998، وبدأ كمسؤول لمكتب أفريقيا، ثم انتقل إلى إدارة قسم الأبحاث فيها. هو من الناشطين الذي عملوا ميدانياً وقادوا تظاهرات في تونس وفرنسا، وكان جوليار قد وقف الى جانب مينار في آذار (مارس) الماضي، في محاولة لعرقلة مرور الشعلة الأولمبية في باريس.
كما يرأس تحرير المجلّة التي تصدر عن المنظمة باسم «Qui - Vive».
على الرغم من إعلان مينار لأعضاء منظمة «مراسلون بلا حدود» استقالته منذ فترة، بقي اسم خلفه سرّياً لأيام. وقد انتخب جوليار من المجلس الدولي للمنظمة، ولم يكن انتخابه مفاجئاً، اذ كانت الأنظار الداخلية كلُّها موجّهة اليه.
يؤكّد جوليار، في مقابلة مع صحيفة «لو موند» الفرنسية، أنّ «غياب مينار لن يُبطئ سير عمل المنظمة، ولن يؤثر سلباً عليها». أما محاور سياسته الجديدة لقيادة المنظمة الدولية فتتوزّع على تحويل «مراسلون بلا حدود» إلى مصدر معلومات، فضلاً عن كونها مرصداً للحريات، إضافة إلى الاهتمام بالصور التي يمكن للمواطنين إرسالها، كشهادات حيّة من حول العالم للتعبير عن واقعهم.
وسيسعى إلى إعادة تفعيل عمل المنظمة وحضورها في الدول الأكثر عدائية وقمعاً، «حيث كنّا غائبين منذ فترة لأسباب خارجة عن إرادتنا أو لخلل في الأولويّات». ويشير الأمين العام الجديد إلى اعتماد طرق مبتكرة للنضال والنشاطات الميدانية، من دون الاستغناء عن إصدار التقارير السنوية عن نسبة الحريات في دول العالم. ولم يذكر جوليار بعد ما إذا كانت السياسة التمويلية للمنظمة ستبقى كما أعلنها مينار من قبله، معتمدةً على جهات تمويل خاصة، وعلى بيع الروزنامات والصور والملصقات والقمصان...