كادت سيطرة هالة هربرت فون كارايان هذه السنة تُنسينا الذكرى المئوية لولادة الموسيقي السوفياتي الكبير دافيد أويستراخ (1908ــ1974). وفيما انقسم الاهتمام هذه السنة في عالم الموسيقى الكلاسيكية بين مئوية المؤلف الفرنسي أوليفييه ميسيان ومئوية القائد الأسطوري كارايان، تنبّهت محطة «ميدزو» التلفزيونية لمئوية رمز موسيقيٍّ ثالث، فبثت في يوم عيده تماماً (30 أيلول/سبتمبر) الوثائقي الذي أنجزه عام 1994 الباحث الشهير برونو مونسانجون بعنوان «دافيد أويستراخ، فنان الشعب؟». نعم، أويستراخ هو فنان الشعب بامتياز، وما علامة الاستفهام في عنوان مونسانجون سوى ذاك التحفظ «الغربي» الجاهز على كل ما هو سوفياتي. ففي الوقت الذي غادر فيه الكثير من المواهب الموسيقية روسيا إبان الثورة (أمثال عازف الفيولون ياشا هايفتس وعازف البيانو فلاديمير هوروفيتس، والمؤلفَيْن راخمانينوف وسترافينسكي)، رفض كبار الفنانين، بإرادتهم، العيش خارج الستار الحديدي (أمثال أويستراخ وعازف البيانو سفياتوسلاف ريختر والمؤلفَيْن شوستاكوفيتش وبروكوفييف).عُرِف دافيد أويستراخ عازف فيولون وألتو (وقائد أوركسترا أيضاً) ولو أن اسمه ارتبط بالآلة الأولى التي تمكّن منها كلياً وأبهر سامعه بسهولة أدائه لأصعب المعزوفات. مهارته واحترامه لإرادة المؤلف لم يمنعاه من تحميل أدائه أحاسيس خاصة يستخرجها من عمق العمل الموسيقي، وذلك من دون الحاجة إلى الإسهاب في التأويل. منحته موهبته الاستثنائية شهرة كبيرة في بيئته كما في أوروبا والعالم، واحتلت معظم تسجيلاته (وخاصة أعمال المؤلفين السوفيات) المراتب الأولى، وبقي بعضها في هذا المنصب حتى يومنا هذا. إسهاماته الموسيقية أداءً وتعليماً وتعاوناً مع مؤلفي تلك الفترة (وخصوصاً شوستاكوفيتش وبروكوفييف وختشاتوريان الذين كتبوا له العديد من الأعمال)، لاقت تقدير السلطات الرسمية، التي منحته «جائزة ستالين» عام 1942 (ما لبث أن تبرّع بها للجيش الأحمر) كما حاز «جائزة لينين» عام 1960.
نقل أويستراخ موهبته الموسيقية إلى نجله إيغور (1931) الذي سجّل معه أعمالاً تتطلب عازفَيْ فيولون أو عازفاً واحداً إلى جانب عازف ألتو (أبرزها لباخ وموزار)... قبل أن يرحل «فنان الشعب» عام 1974 إثر نوبة قلبية.