تنوّع في الأسماء والتجارب، واهتمام عالمي متزايدعلي زراقط
من رأى الصالة المكتظة في مسرح {بابل} خلال عروض {مهرجان سينما الفقدان} الذي أقيم في بيروت في الذكرى الستين للنكبة (تنظيم سماح إدريس وإليان الراهب)، لاحظ أنّ المسألة لا تقتصر على السينما فحسب. يؤكّد ذلك الحصر الدائم للمهرجانات المختصة بفلسطين وسينماها، بتواريخ كذكرى النكبة، والنكسة، وإلى ما هنالك من كلمات تعني الفقد. هاتان الملاحظتان تحيلانا إلى أسئلة جوهرية عن السينما الفلسطينية: هل نحن قادرون على التعامل معها على أنّها أفلام فقط أم من منطلق كونها قيمة سياسية؟
منذ انطلاقتها، لم تكن السينما الفلسطينية بأفضل حال مما هي عليه اليوم. من غزارة الأعمال والاسماء إلى الحفاوة المتجددة على المستوى الدولي. بعد إيليا سليمان في {مهرجان كان} 2002، وهاني أبو أسعد في الأوسكار، وصل الدور إلى آن ماري جاسر التي عرض فيلمها {ملح هذا البحر} ضمن تظاهرة {نظرة ما} في {كان}. وهو الفيلم الذي ستتاح للجمهور اللبناني مشاهدته خلال {أيام بيروت السينمائية} الذي ينطلق في 17 الحاليالمخرج هاني أبو أسعد الذي يستعد لدخول هوليوود في مشروعه الجديد، يعلّق على حالة الازدهار تلك: «النجاح لا يقتصر على الموهبة، بل يتعدّاه إلى الحظ: ينبغي أن تكون في المكان المناسب في الوقت المناسب. فيلمي {الجنة الآن} عُرض في الغرب في وقت كان الكل مستاءً من سياسة بوش}. أما المخرج نزار حسن فيعتبر أنّ {السينما الآن هي في أميركا وأوروبا، وتخضع لقوانين العرض والطلب. الطلب الآن على السينما الفلسطينية، لأنّ القضية الفلسطينية صارت قضيةً في الوعي الأوروبي، ولأنّ أعداءنا على ارتباط وثيق بالرأي العام الأوروبي. إنّهم جزء من يهود أوروبا، وبالتالي جزء من أوروبا. لذا، فتسويق أفلامنا كفلسطينيين أسهل من أي فيلم عربي آخر}.
قد تتعلّق المسألة بحسن الطالع، وبالاعتماد على المخزون السياسي للقضية. إلّا أنّه لا أحد يسعه أن ينكر أن تلك السينما تشهد، منذ فترة، تحوّلاً جذرياً في توجهاتها الفنية.
يمكن التأريخ لأول لشريط فلسطيني في 1935، وهو توثيق لزيارة الملك عبد العزيز آل سعود إلى القدس، صوّره إبراهيم حسن سرحان. إلّا أنّ {السينما الفلسطينية} لم تظهر قبل 1969، عندما قدّم مصطفى أبو علي «الحقّ الفلسطيني». تلك السنة شهدت شريطاً فلسطينياً ثانياً هو {ثلاث عمليات في فلسطين} لأحمد صالح الكيالي. وقد يكون من قبيل المصادفة (أو لا)، أن تأتي أحداث أيلول الأسود في السنة التي بدأت فيها السينما الفلسطينية بشق مسيرتها. عند الحديث عن البدايات، لا مفرّ من التوجّه إلى الأب الرمزي لتلك السينما: {شريطي الأول «الحق الفلسطيني» صوّرته في الأردن سنة 1969، فأغضب السلطات ولم يعرض. القضية هي أرضية السينما الفلسطينية التي كانت جزءاً من الكفاح المسلّح. حركة {فتح} كانت تنتج أفلاماً، والجبهة (الشعبية) كانت تفعل مثلها. واحدة تضع صورة أبو عمار والأخرى صورة جورج حبش}. هكذا، يحكي أبو علي عن بدايات السينما الفلسطينية التي حاولت أن تتحدث عن فلسطين مرةً من الأرض اللبنانية، ومرة من الأرض الأردنية أو المصرية، وحاولت أن ترسم صورةً لأرض ضائعة وشعب مشتّت. لطالما كانت السينما بنت المدينة والمكان، «أما نحن فاستبدلنا المدينة بالقضية. فلسطين لنا شيء نظري» يقول أبو علي، مضيفاً: {هي موجودة في الحلم والإحساس والحنين}. هذه الـ{فلسطين} النظرية لمسناها لدى أبو علي وغيره من الرعيل الأول من السينمائيين الفلسطينيين. كانت محاولة للعبور من صورة الفلسطيني المسكين إلى الفدائي الذي يُلهم النضال للعالم. هذا ما نراه في فيلمي أبو علي اللذين عرضا في ذكرى النكبة: {عدوان صهيوني} و{ليس لهم وجود}. في الأول، لا نرى إلا جثثاً بينما صوّر الثاني الحياة اليومية في المخيّم والجبهة، والإصرار على الأمل بالانتصار.
هذا الخطاب الذي أرساه أبو علي ورفاقه، أدى إلى سينما مناضلة تنمّط الفلسطيني {الفدائي} على حساب التفاصيل الفردية. إلّا أنّ ما نشهده اليوم هو ذهاب الجيل الجديد إلى تجارب ذاتيّة، تغوص في تناقضات المجتمع الفلسطيني. هذا لا يعني غياب الهمّ الوطني، إلا أنّ الفرد بدأ يحتل الصورة. يمكن رصد هذا التحول مع {سجل اختفاء} لإيليا سليمان الذي ذهب إلى سينما تُعنى بالفرد الفلسطيني المليء بالطاقة، والمحاط بالكبت. سينما ترى في هذا الفرد ضعفه وأخطاءه، قبل معاناته. السينما الفلسطينيّة الجديدة تقول إنّه ليس بطلاً ولا ضحية مطلقين، بل إنسان أولاً. ومعاناته تُفصح بأنّ الاضطهاد الذي يمارس عليه يؤدي به إمّا إلى الحلم ببطل خارق على طريقة {يد إلهية} لإيليا سليمان، أو التحوّل إلى قنبلة على طريقة {الجنة الآن} لهاني أبو أسعد.
هذا التحول نحو التفاصيل، هو إطار فكري وجمالي عام، يجمع سينمائيين على كثير من الاختلاف في اللغة والأسلوب والخيارات الفنيّة، من ميشيل خليفي إلى... رشيد مشهراوي. وهذا التوجّه الجديد لا يتخلى عن الهاجس الأساسي للإنسان الفلسطيني، وهو الاحتلال، بل يوظّفه في أشكال وقوالب وخطابات أكثر نضجاً وتعقيداً.