تجربة تربّت في المنافي وتشبّعت من مرجعيات مختلفةحسين بن حمزة
منذ باكورته «الصبي» (1982)، بدا أنّ صوتاً ذا نكهة مختلفة يريد حجز موضع لنفسه داخل المشهد الشعري العربي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. في تلك المجموعة، جرّب نوري الجراح أن يقلِّب نبرته المستجدّة داخل موضوعات وأمزجة متعدّدة، مستخدماً لغةً سُحب منها التفاصح والتهويم اللفظي والغناء التقليدي، لغة أقرب إلى الكلام المتداول والسرديات المهملة والتفاصيل العابرة.
الأعمال الشعرية لنوري الجراح («المؤسسة العربية للدراسات والنشر»)، مناسبة للنظر إلى تجربته الشعرية في سياقها الإجمالي، ومعاينة المسالك التي خاضتها قصيدته من ديوان إلى آخر، والتحولات الطفيفة، لكن الحاسمة التي أصابتها. سرعان ما أدار الشاعر ظهره لإنجازات المرحلة الأولى، ومضى في اتجاه جملة قصيرة ونابضة وكثيفة، تستثمر معجماً لغوياً وحياتياً أكثر خصوبة واتساعاً. جملة قادرة على صياغة النسخة النهائيّة للقصيدة وإخفاء موادّها الأولية في الوقت عينه. فجأةً، صارت قصيدة نوري الجراح تعيش فوق طبقات غير مرئية من المسوّدات والاقتراحات، سواء تلك التي استُخدمت فيها أو التي جرت تنحيتها وإهمالها. نادراً ما يجد قارئ هذه القصيدة شيئاً من ماضيها أو ما استُخدم في كتابتها إلى جوارها. التجريب الذي وسم المجموعة الأولى استقرّ على جملة ستصبح جِلْدَ الشاعر. ستخضع هذه الجملة لانزياحات شتى. ستنشقّ عن تدرجات وأطياف ومذاقات عديدة. لكنّ طَبْعَ الشاعر سيغلب تطبّعه فيها. إذْ ستستعمل هذه الجملة الممرات والكوى نفسها للوصول إلى القارئالواقع أنّ استقرار هذه الجملة حدث على شكل وساوس وهمهمات في «الصبي»، قبل أن تظهر بجلاء في «مجاراة الصوت» (1988)، مجموعته الثانية التي بدا فيها أنّ الشاعر ابتعد مسافة هائلة، وأنه يقترح على القارئ اتّفاقاً جديداً يقضي بتضمين «بيانه» الشعري في مجموعته الثانية لا في الأولى.
المفاجأة لم تكن في زحزحة البيان الشخصي من كتاب إلى كتاب فقط. كان القارئ على موعد مع قصائد مكتوبة وفق ضربات أسلوبية مختلفة عما اعتادت ذائقته. كما أنّ العوالم والمشهديات التي تضمّنتها تلك القصائد كانت جديدة حتى على الشعر الذي كان رائجاً في ذلك الوقت. في قصيدة بعنوان «السائق»، نقرأ: «توقف الباص براكبه النائم/ ترك السائق المقود/ صعد/ بحذائه المطّاطي/ ونظارته الطبية/ وتاج المهنة ذي النسر/ صعد السلم الدائري/ وسكّينه بين أسنانه/ تلمعُ في الضوء». في هذه القصيدة، وفي قصائد أخرى من المجموعة ذاتها، شرع نوري الجراح بإضافة مناخات جديدة على ما سُمِّي القصيدة اليومية التي ستضيق لاحقاً بمناخاتها شبه الموحّدة. اليومي هنا مرئي من زاوية مواربة، ومسوقٌ إلى أرض شعرية غير مأهولة بعد. هذه الإضافة لن تكون وحيدة. ستتبعها اقتراحات تالية طاولت معظم شغله اللاحق. قد يكون ذلك في سطر مدسوس بعناية فائقة داخل قصيدة: «بنيتُ جسدي قطعةً قطعة.. لكن يد الزمن كانت أكثر مهارةً»، أو في قصيدة قصيرة كاملة: «أجرّ كرسياً إلى الرماد/ أُعِدُّ صنّارتي/ وأترقَّب/ ظهور سمكة الأصيل»، أو بالانغماس في معارضة خير الدين الأسدي المقترح نقدياً كواحد من روّاد قصيدة النثر العربية، كما هي الحال في ديوان «الحديقة الفارسية» (2004)، أو في قصيدة طويلة تنزِّه التصوف والحب خارج أرضهما المعهودة كما في «القصيدة والقصيدة في المرآة» (1995) التي تستغرق ديواناً كاملاً: «يوماً بعد يوم/ أنامُ/ إلى أن يخرج من رأسي كلُّ ما عرفْتُ/ وملائكة يحملونني على مطرَّزات/ إلى خالةٍ/ في منزلٍ/ وراء النهر».
في مجموعاته التالية، أُضيفت مهارات وتقنيات أخرى عزّزت نبرة الشاعر وأظهرتها في عتادها وعدّتها الكاملين. أشياء وانتباهات كثيرة تسرّبت إلى قصيدته. المنفى، والعيش في أكثر من مكان، كانت له مساهمته الواضحة أيضاً. علينا ألا ننسى أنّ تجربة الشاعر برمّتها نشأت وتربّت في المنافي. ولعل هذا أدّى دوراً آخر يتمثّل في صعوبة إيجاد صلات قربى واضحة لقصيدته داخل الشعر السوري المعاصر. غالباً ما يُستذكر صاحب «حدائق هاملت» (2002) كواحد من عُتاة الجيل السبعيني في سوريا، إلا أنّ هذا الاستذكار ـــ باستثناء الجنسية والجغرافيا ـــ لا يُرفق بقرائن وأدلة شعرية دامغة. عاش الشاعر في بيروت ونيقوسيا ولندن وأبو ظبي أكثر مما عاش في بلده الأم. ولا بدّ من أنّ هذا انسحب على قصيدته أيضاً. لم تعد هذه القصيدة نتاج مرجعية واحدة أو مسجّلة بأسماء أسلاف محددين. لعل هذا يضاعف من فكرة أن الشاعر يُخفي الحياة السرية لقصيدته. إنّه يحجب مسوداتها عن القارئ، ويخفي مؤثراتها الخارجية أيضاً.
الأهم في كل هذا أنّ صاحب «صعود أبريل» (1996) ظلّ يُشهر أمام القارئ ممارسته الأثيرة في ابتكار فجوات وفراغات داخل قصيدته، وحشوها بما استخدمه في صنعها. أو حفر الطريق أمام القصيدة وترك الأتربة الناجمة عن هذا الحفر محجوبة عن عين القارئ. وهي ممارسة تشير إلى أنّ الجراح يعرف كيف يذهب إلى النسخة المخبأة وغير المباشرة من القصيدة، أو أنّه قادر على مسح أي أثر يُذكِّر بالطريق الذي قطعته هذه القصيدة. القارئ غالباً ما يجد صعوبة في تخمين الحياة السرية لقصيدته أوالمسوّدات التي مرت بها وعاشتها لكي تستوي على صورتها الأخيرة. نقرأ صورأً مثل: «الضحكةُ تقلِّبُ النائم/ كما لو أن العدوّ شقيقٌ يحلم» أو «أصفُ الغابةَ، وأعودُ بالنّمر من عضلته الأقوى» أو «جاءني فتىً أطلق جماله في صوته/ فتىً كسر جماله على مقعدٍ/ خفضتُ له كتفي/ ليتّكئ».
تُدهشنا هذه الصور. لكن هيهات أن نعرف الفكرة التي بدأت منها أو التشبيه الذي انتهت إليه.

«كهول» الحداثة الثانيةداخل هذا السياق الواسع، تنبغي قراءة تجربة نوري الجراح. وهي قراءة تقترح معاملة مختلفة لمصطلح «الجيل». قراءة عابرة للحدود الضيّقة التي تفرضها جنسيات شعراء متقاربين في النظر إلى الشعر وممارسته.
اللافت أن شعراء أكبر سناً تأخر صدور أعمالهم الأولى، فتزامن ظهورها مع أعمال هؤلاء الشبان في الفترة نفسها. «الوقت بجرعات كبيرة» (1983) لعباس بيضون و«ليس للمساء إخوة» (1981) لوديع سعادة، و«الوصول إلى مدينة أين» (1985) لسركون بولص. هؤلاء أعطوا ثقلاً ومشروعيةً إضافيةً لأصوات ذاك الجيل. لاحقاً، راح عدد من الروّاد أنفسهم ــــ سراً وجهاراً ــــ يستأنسون بقصائد هؤلاء. احتكّت مخيلاتهم بمخيلات الجدد. حتى إن الحديث عن مساهمة ذات شأن للشبان في انعطافات بعض الرواد ـ وخاصة التفعيليين منهم ـ لن تكون فيه أي مبالغة. استثمر هؤلاء علاقات النثر التي سادت في أعمال الجدد. شفّت تفعيلتهم واغتنت واكتسبت نسغاً جديداً. في تلك الفترة، كانت حداثة ثانية تطلّ بنصوصها. هؤلاء الشبان (الكهول اليوم) كانوا بعض روّادها.