حيفا ــــ علاء حليحلمنذ 2000، وتحديداً منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، تغيّرت إسرائيل على المستوى القيادي الرسمي والشعبي: من وجهة نظرهم «العرب والفلسطينيون خذلوا إسرائيل بعدما أعطتهم كل شيء» (مفاوضات كامب ديفيد الثانية). وهذا ما يفسّر الهجمة الشرسة على العرب الفلسطينيين في إسرائيل واستهداف قادتهم ومؤسسات المجتمع المدني التي تمثّلهم أو تحمل مشاغلهم. من «جسر للسلام»، تحوّل العرب مواطنو الدولة في أقل من 8 سنوات إلى كابوس يقضّ مضاجع الاحتلال، وينعكس هذا في نموّ خطاب الفصل العنصري والترحيل الذي بات يحقّق تقبّلاً في المجتمع الإسرائيلي حسب الإحصاءات. وللوهلة الأولى، يبدو الإجراء الذي اتخذته السلطات الإسرائيلية أخيراً بحقّ صالح عباسي، صاحب مكتبة «كل شيء» في حيفا، استمراراً طبيعياً لهذه السياسة. إذ ألغت تصريح استيراد الكتب الممنوح له، بحجة الاستناد إلى بند قانوني إسرائيلي «يمنع استيراد بضائع تجارية من دولة عدوّة» أي لبنان وسوريا. هكذا، صار مستحيلاً على أي عربي في حيفا أو الناصرة أو أم الفحم أن يقرأ إصدارات «دار الآداب» أو «رياض الريس»، لأنّ كتب هذين الناشرين وغيرهما باتت ـ رسمياً ونهائياً ـ «ممنوعات أمنية». إنّها عودة صريحة إلى منظومة الحكم العسكري، وهي الفترة التي امتدّت من تأسيس إسرائيل حتى 1966، حين خضع الجليل والمثلث والنقب لحكم عسكري في الديموقراطية الإسرائيلية الناشئة، مُنع بموجبه العرب من التنقّل من دون تصاريح الحاكم العسكري. تميّزت تلك الفترة بمحاولة إذابة الهوية العربية الفلسطينية، لدى الأقلية التي بقيت في ظل الدولة الفتية وأنشئت وسائل إعلامية (صحف، ومن ثم «صوت إسرائيل» بالعربية...) لفرض خطاب سياسي ـ ثقافي متقبِّل للهوية الإسرائيلية الجديدة. وقتها، لم يكن ممكناً استيراد كتب من العالم العربي، وكان الناس يستمعون سراً إلى خطابات جمال عبد الناصر عبر المذياع. بعد نكسة 1967، بدأت المفارقات التاريخية المضحكة ـ المبكية: صار بالإمكان التواصل بين «عرب الداخل» وعائلاتهم في جنين وغزة. وبدأت حركة ثقافية تبادلية، برز خلالها النهَم الكبير للعرب في إسرائيل للتواصل الثقافي مع حضارتهم ومحيطهم الطبيعي. وما زاد المفارقة، اتفاقية كامب ديفيد المكروهة. لقد كانت السبب في إعطاء تصريح من الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى صالح عباسي الذي توجّه فوراً إلى القاهرة ليعود بـ 30 ألف كتاب، باعها خلال أيام في ساحة «بيت الكرمة» في حيفا. وكيف للمفارقة أن تكتمل من دون اجتياح لبنان عام 1982؟ إذ أنّ صديق عباسي اليهودي ضمِن له دخول صور وبيروت... فعاد الرجل بآلاف الكتب إلى الداخل وباعها أيضاً في أيام قليلة.
مسيرة الكتاب العربي في الداخل ترتبط باحتلالات إسرائيل، كونها الطريق الوحيدة نحو الخارج. بعد اتفاقية السلام مع الأردن، تحوّلت عمان إلى همزة وصل أوتوماتيكية بيننا وبين العالم العربي. لم يتوقف الأمر عند استيراد الكتب، بل صارت اللقاءات الثقافية مع العرب والفلسطينيين من الدول العربية تُعقد هناك، كنوع من التحايل على منع دخول هؤلاء إلى حيفا ويافا، أو تفادي إحراجات «الاستقبال» الإسرائيلي الذي يترك دمغته السافرة على جوازهم الأجنبي عبر ختم الدولة العبريّة.
يمكن طرح علامات استفهام كثيرة حول طريقة عمل صالح عباسي، وعلاقاته مع سلطات الاحتلال. لكن القرار الإسرائيلي الأخير الذي لا بدّ من التساؤل عن خلفيّاته، يحمل تباشير حصار ثقافي جديد، يبغي العودة إلى تلك الفترة، فترة عزل أهل فلسطين التاريخيّة عن ثقافتهم، والعمل على ابتعادهم عن السياسة والاكتفاء بالركض وراء لقمة العيش. منع الكتب والقراءة شبيه بإحراق الكتب في الشوارع، في المحصّلة الأخيرة. كان هذا اليهودي هايني هنريخ الذي قال: «في المكان الذي يحرقون فيه الكتب في الشوارع، سيأتي يوم يحرقون الناس أيضاً».