«هاوي الجمال فقد صوابه» في «غاليري عايدة شرفان»نوال العلي
يختار سبهان آدم أن ينكّر عناوين لوحاته بدلاً من تعريفها. فهي «جبين بنقطة حمراء» و«فم فاغر»، «تشويه» و«رداء أبيض». ينكّر ليقودك إلى فمٍ وجبينٍ ورداء، لتنسى سديم اللوحة، وتغرق في ما يريد. كأنّ لسان حاله يقول: ظهر لي جبينٌ، فوضعت له علامة. رأيت رداءً فتذكّرت لونه، أو رسمت فماً لكنّه فاغر. نفهم هذا الاكتراث بالتفصيل، فالجسد هو نفسه مذ بدأ آدم الرسم، لذلك نعرفه. أما التفاصيل فهي التي تتغيّر، لتظلّ في حالة التنكير دائماً.
لن تفضي محاولة الفهم إلى شيء. تفسير الفن هنا هرطقة والمنطق ينتهي حين تبدأ اللوحة. أنت أمام أعمال تجسّد نوعاً خاصاً جداً من إدراك الإنسان، الأصل في اللوحات للوجود نفسه، وهو يحمل صفة الجاهل. نادراً ما تفلح التفسيرات في زيادة التمتّع بالعمل، بل على العكس. إنّها تفسد هذه المتعة في حالة آدم الذي قال مرة إنّ الفن «عصي على الشرح فهو أكثر من لون على “كانفاس”، إنه كالموسيقى. وما أفعله ليس مرتبطاً بنظرية أو أيديولوجيا، إنه مسألة بين الروح والإحساس». نحن إذاً، مرةً أخرى، أمام لوحات تطارد المتلقّي كلعنةمعرضه La déraison de l›esthète الذي تستضيفه حالياً غاليري «عايدة شرفان» («هاوي الجمال فقد صوابه»، إذا شئنا ترجمة تقريبيّة بتصرّف)، يتضمّن 24 لوحة بأحجام كبيرة في غالبيتها. يكتسب الرداء أهمية خاصة في أعمال آدم، والعناية الخاصة بتلوين العباءة بألوان فاقعة وحارّة وتطريزه بالخرز والبرق أمر يتكرّر في معارضه كلّها. حتى إنّ سبع لوحات على الأقل تحمل عناوين تتعلق بالرداء («رداء مزهر»، «رداء برتقالي ذو خطوط ملونة»، «رداء موشّى بالذهب»، «رداء أبيض»...).
الظهور في هذه اللوحات بالذات يحمل طابعاً كهنوتياً، ملامح الوجه المرسوم صامتة وغارقة في الحزن، ثقل الحياد في الشعور يصل حدّ التعاطف. تفاصيل الجسد محجّبة بالكامل، هذا الجلباب يعطي «الفيغر» أو الوجه المرسوم شكلاً ممتلئاً وعمراً إضافياً. اليدان قد تظهران على شكل مخالب من الرأس. العينان على خدّ واحد، كأن مكان العيون الزرق دائماً مرتبط باتجاه رغبتها في النظر، مخيّلة طفولية تعمد إلى تشويه غير مقصود بل متضمن في خيال آدم نفسه. ألا يعترف ابن قرية الحسكة في أحد لقاءاته بأنّ البشاعة والتشويه استوحاهما من طفولته البائسة والصعبة التي قضاها في المرض والفقر، بقوله «ذلك الزمن من حياتي يشبهني».
لنقل إنّنا في لوحات سبهان آدم (1972) أمام نوعين من الظهور، ونستخدم تعبير الظهور هنا لأنّ موضوع اللوحات له طابع أثيري: كأنّه طيف يقف على ماء، أو كأنه جني خرج من العدم. النوع الأول له طابع أبوي نافذ، وحضور مهيمن، يؤكده الفنان بالوقفة التي تشبه المساءلة. كما يبرزها الرداء الذي يوحي بالسلطة ويعتني آدم بأبهته، فيما يترك كل ما حوله كأنّه لا شيء. القماش غالباً لم يُمس ولم يلون، متروك بلونه العشبي الكالح، عدا لوحة «عباءة مزهرة» التي لونت خلفيتها الخشنة بطبقات من الأسود جعلها تبدو كحامل (ستاند) من القطران. بينما تكاد ألوان العباءة المزركشة تنطق، وحدود الوجه الذي اكتسب لوناً عفنياً، محززة بالأسود الفاحم.
أما النوع الثاني لموضوع اللوحات فيتجسّد في لوحات «رجل عصفور»، «الكمامة» «عينان معصوبتان»، «فم فاغر». تكشف العناوين التغيير في موضوع اللوحة، إنّها تنقلب على سطوة الرداء. الظهور قد يكون بـ«الشورت الأحمر» عنوان إحدى اللوحات التي تنزع فيها العباءة عن صاحبها لتنكشف تشوّهاته وبشاعته. سروال قصير يبرز ترهّلاً في البطن وأصابع القدمين المستطيلة وأظافر اليدين الطويلة، ضمادة حمراء على الذراع وربطة عنق بألوان متناقضة ربما تخفي تشوّهاً آخر. يقترب هذا الشكل كثيراً من المنحوتات البدائيّة الأفريقية.
هذه المرة قلّما يجلبب سبهان الجسد الناحل جداً، أحياناً يتركه نابتاً كأنّه يخرج من بتلة وردة. إنّه الشخص نفسه الذي رسمه في معارضه «أجساد سرمدية» (2007) و«أبعد من الليل» (2008)، وغيرهما من المعارض الشخصية التي تعدّدت بين باريس ونيويورك وجنيف ومدريد وروما وبرشلونة وبومباي.
وبالعودة إلى موضوعه، أو «بطل» لوحاته، نجده وقد ترك ذقنه غير حليق وطال شعره، وزادت الخطوط والهالات تحت عينيه، وتعاظمت كآبته وعزلته. لقد مرّ عليه الوقت، وصارت عاطفته مكشوفة حتى لو حاول آدم تكميمه مرةً وعصب عينيه مرات، أو تغطية إحدى عينيه. كأن الفنان يبالغ في حرمان قرينه من التعبير عن طريق النظر. هذا النظر الذي يبدي ـــ حين يُترك متاحاً ـــ شعوراً قاتلاً باللامبالاة إزاء العالم المنظور.
الشخص موثق بخطين لونيين برتقاليين، كأنهما معلقان في شجرة غائبة أو سماء بكماشات. مشاهد يفترضها قارئ اللوحة، حين يرى عمل «رجل عصفور» الذي يقترب شكله من شرنقة لن تفلح في الخروج، أو من عصفور حالك السواد يعدّ للشواء. أيّ طيران سيكون لعصفور بلا جناحين؟ النظرة نفسها ستواجهك، إذ يلتفت الرجل المعلق ويحدق جارحاً في من يراه. كذلك هي حال البورتريهات المؤطرة بإطار نحاسي عريض، مزركش وتقليدي، كأنها صور قديمة التقطت لشخص ينظر في مرآة. تشعر بأنّ مثل هذه البورتريهات لن يتاح لك مشاهدتها سوى في قصر مسحور، أو فيلم بأجواء غرائبية، النظر فيها ليس موجهاً إلى الخارج، آدم معنيّ بضمير الجمال يستنطقه ليعيد الاعتبار إلى مفهوم القبح. تشاهدك اللوحة فتقول لك: فيمَ تحدّق؟ أنت لا تقل عنّي تشوّهاً؟

حتى 24 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري ـــ غاليري «عايدة شرفان» (وسط بيروت) ـــ للاستعلام: 01/983111 ـــ www.aidacherfan.com



هذا نزار فعلاً؟الخط الديواني مكتوب باللون النحاسي على أرضية كتانية، والرداء الممنوح للجسد هذه المرة هو الأصفر، العينان زرقاوان طبعاً، والنظرة مستمرة في فظاظتها. قصائد الحب تعطي اللوحة طاقة مختلفة، الغريب أنّ الاختلاف أساسه التشابه، فإذا كان الوجه لن يتغير، فما الذي يضيفه إليه الحب، أو الكلام عن الحب. لا بد من أنّه نزار، نعود إلى الافتراض.
ربما يلجأ آدم إلى ذلك، لأنّ لوحته غدت مألوفة، رغم غرابتها. الغرائبية نفسها أصبحت معتادة. لكنهّ فنان اختلف في أعماله عن الفن التشكيلي السوري، والعربي عموماً. فنان أعجب الغرب الذي وجده مغايراً وغير مقلد، وبات الآن يلقى اهتماماً في الجهة الثانية والكسولة من العالم. أما عالمه هو، فمنفرد وغير متكلّف، اللوحة نفسها ليست معقدة بصرياً أو فنياً. ليس فيها عناء مع اللون أو اشتغال على طبقات ومواد. صحيح أنّه يستخدم التطريز، لكنه حتى في ذلك كان بسيطاً، فهو يلجأ إلى الأشياء التقليدية والسهلة في ذلك. هذه المرة كانت لوحاته أكبر من المعتاد. وهناك بوسترات لبعض اللوحات معروضة إلى جانب الأصل.